من يقود من؟ القيادة العلمية أو القيادة التنفيذية؟
الشيخ الدكتور/ أحمد الريسوني
هذه مسألة جدلية “إشكالية”، توجد في جميع التشكيلات والتكتلات البشرية، ولها وجود وامتداد قديمان في الفكر السياسي والفكر الفلسفي..
ومضمنها هو: لمن يجب أن تكون القيادة العليا، أو الرئاسة العليا، في الدول والمجتمعات والتنظيمات، هل تكون لأهل القوة التنفيذية والممارسة الميدانية، أم لأهل العلم والفكر والرأي؟ وهل الأصلح لمنصب القائد الأعلى هو الأكثر علما أم هو الأكثر حزما؟ وهل هو الفيلسوف الحكيم، أو القائد الزعيم؟ وهل هو صاحب السيف، أو صاحب القلم؟
ومعلوم أن هذه التساؤلات تختفي عادة من السطح عند سيطرة الاستبداد والاستفراد، وسيادة السيف والخوف، ولكنها تظل قائمة في النفوس والعقول، وتخرج إلى العلن كلما وُجد حيزٌ لحرية التفكير والتعبير، ولو في ثنايا الكتب..
تحرير محل النزاع
المفاضلة في هذه المسألة ليست عامة؛ فهي ليست واردة – مثلا – بين متزعم فاسد وعالم قائد، ولا يمكن أن تكون بين زعيم عاقل وعالم عاجز أو خامل، أو بين ظالم قوي، وعادل ضعيف. فالأمر هنا واضح محسوم، ولا مكان فيه للموازنة والمفاضلة، على الأقل من الناحية المبدئية..
وقد كان الجواب من الله تعالى حاسما برفض الإمامة للظالمين، ولو كانوا من ذرية الأنبياء {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124].
فالسؤال والإشكال إنما هو في المفاضلة بين من تجتمع فيهم مؤهلات علمية وقدرات قيادية، ولكن بعضهم يتفوق بالمؤهلات العلمية والقدرات الفكرية، مع ضعف في الزعامة والنفاذ. وبعضهم يتفوق بالقدرات القيادية التنفيذية، مع نقص في مجال العلم والفكر.. فمَنِ مِن هذين الصنفين هو الأصلح والأَوْلى بأن يُـختار ويقدم للقيادة والرئاسة؟
وبغض النظر عن التفاصيل والعناصر التفضيلية الممكنة في مختلف الاعتبارات والمرجحات القيادية، فالمفاضلة المقصودة – وباختصار – هي بين العلماء الأمناء، والزعماء الأقوياء.. فلِمن منهم تكون الرئاسة العليا؟ ومَن ينبغي أن يتبع الآخر؟
وفيما يلي بعض المراشد الشرعية الهادية في المسألة.
- العلم إمام العمل[1]
ولعل أوضح بيان لهذه الـمَرشَدة هو ما أورده الإمام البخاري في صحيحه؛ وهو في الحقيقة جملة من المراشد، حيث قال رحمه الله:
“باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، فبدأ بالعلم. وإن العلماء هم ورثة الأنبياء؛ ورَّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر. ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة. وقال جل ذكره {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}، وقال {وما يعقلها إلا العالمون}، {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}. وقال {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يردِ الله به خيرا يفهمه، وإنما العلم بالتعلم…”
وما دام العلم إمامَ العمل وقائدَه، والعملُ تابع للعلم ومُؤتـمٌّ به، فمعناه أن الإمامة هي أولا لأهل العلم والرأي، وأهلُ العمل والتنفيذ تابعون لهم.
- السيف تابع للكتاب
وهذه المرشَدة تابعة للأولى وفرع عنها. والسيف هنا تعبير عن القيادة الجهادية الميدانية، والكتاب تعبير عن المرجعية العلمية الشرعية. والمعنى: أن القيادة العسكرية تابعة للقيادة العلمية، تسير في ضوء تعليماتها وتوجيهاتها وفتاويها. وقراراتها العليا. وتبقى الخطط التنفيذية والعمليات الميدانية للقيادات الميدانية.
قال الإمام ابن تيمية: “والسيف من جنس العمل، والعمل أبدا تابع للعلم والرأي”[2].
وفي توضيح أكثر يقول: “… وكذلك كانت الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل المدينة يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها، مِن جعلِ صاحب الحرب متبعا لصاحب الكتاب، ما لا يكون في الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل العراق ومَنِ اتبعهم، حيث يكون في هذه والي الحرب غيرَ متبع لصاحب العلم. وقد قال الله تعالى في كتابه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} الآية، فقِوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر {وكفى بربك هاديا ونصيرا}.
ودين الإسلام: أن يكون السيف تابعا للكتاب. فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعا لذلك، كان أمر الإسلام قائما”[3].
وعلى هذا الأساس يعتبر الجهاد العلمي أصلا للجهاد الحربي وضابطا لسياسته وأحكامه الشرعية. وهذا ما أصَّلَه الفقيه الحنفي الإمام أبو بكر الجصاص بقوله: “الجهاد بالسيف مبنيٌّ على جهاد العلم وفرع عليه؛ لأنه غيرُ جائز أن يَعْدُوا[4] في جهاد السيف ما يوجبه العلم. فجهاد العلم أصل، وجهاد النفس فرع. والأصل أولى بالتفضيل عن الفرع… فإنَّ ثبات الجهاد بثبات العلم وأنه فرع له ومبني عليه”[5].
- الجمع مقدَّم على الترجيح
مسألتنا قائمة على الموازنة والترجيح بين الكفاءة العلمية والكفاءة العملية، لتقديم إحداهما على الأخرى، أي تقديم صاحب إحداهما على الآخر في الرئاسة والقيادة.. ولكن إذا أمكن الجمع بين الحسنيين فهو أجدى وأولى. والقاعدة الأصولية الفقهية (الجمع مقدم على الترجيح) تتيح لنا ذلك وتوجهنا إليه.. فهي تعفينا من الذهاب إلى التفضيل والترجيح؛ وتُـمكِّننا من إعمال كافة المزايا وحفظ كافة المصالح، في تكامل وتعاضد، دونما مصادمة بينها، أو ترجيح بعضها على بعض.
والجمع في مسألتنا، يتأتى ويتحقق بإحدى صورتين:
الصورة الأولى والمثلى: تقديم القائد الجامع للصفات
وأعلى درجاتها هي التي تجسدت في قيادة بعض الأنبياء لأُممهم ودولهم وجيوشهم، باعتبارهم جامعين لمتطلبات القيادة علما وعملا، كما في حالة خاتم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليه.
وكما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي خلَفه نبي، وإنه لا نبي بعدي. وستكون خلفاء فتكثر. قالوا فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم».
وكما في حالة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، سواء منهم الأربعة الأولون، أو من جاؤوا على طريقتهم وساروا على سنتهم؛ فقد كانوا علماء حكماء، وكانوا فقهاء مجتهدين ومفتين، وكانوا أئمة وسادةً في مجتمعهم، وكانوا قادة سياسيين وعسكريين. وإلى هذا كله، فقد كانوا أهل مشاورة لغيرهم من أهل العلم والرأي والخبرة.
ومن وحي هذا النموذج ظل الفقهاء يشترطون في الخليفة صفة العلم والنظر، وبعضهم يشترطون فيه درجة الاجتهاد.. ولكن تجري الأهواء بما لا يشتهيه الفقهاء!
الصورة الثانية: القائد الزعيم المتّـبِـعُ لأهل العلم والرأي
وفي هذه الصورة، تكون الرئاسة العليا للقائد ذي الزعامة والنفاذ، بفضل قدراته القيادية، مع أن مؤهلاته العلمية والفكرية دون المستوى العالي. ولكنه يكون محاطا بالفقهاء ولخبراء وأهل الرأي؛ يستمع إليهم، ويتحاور معهم، ولا يخالفهم، ولا ينفرد دونهم. وهم من جهتهم {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159].
ومثال ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن الحاكمة الرشيدة التي {قالتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون} [النمل: 32].
فالقائد في هذه الحالة يضم إلى صفاته القيادية الذاتية، علم العلماء وخبرة الخبراء ورأي أهل الرأي. فتكون القرارات والخطوات شورية جماعية، وتأتي متسمة بأعلى ما يمكن من الرشاد والسداد. وبذلك يكون في عداد الخلفاء الراشدين. وما قارب الشيءَ يُعطَى حكمَه.
ومن أمثلة هذا الصنف من القادة: يوسف بن تاشفين، الذي قال عنه المؤرخ عز الدين ابن الأثير: “يوسف بن تاشفين، ملك الغرب والأندلس، كان حَسنَ السيرة، خيرا، عادلا، يميل إلى أهل الدين والعلم، ويكرمهم، ويَصدر عن رأيهم. ولما ملك الأندلس، على ما ذكرناه، جمع الفقهاء وأحسن إليهم، فقالوا له: ينبغي أن تكون ولايتك من الخليفة[6]، لتجب طاعتك على الكوفة، فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله، أمير المؤمنين، رسولا ومعه هدية كثيرة، وكتب معه كتابا يذكر ما فتح الله من بلاد الفرنج، وما اعتمده من نصرة الإسلام، ويطلب تقليدا بولاية البلاد، فكتب له تقليد من ديوان الخليفة بما أراد، ولُقب أميرَ المسلمين..
وكان يوسف بن تاشفين حليما، كريما، دينا، خيرا، يحب أهل العلم والدين، ويُحكِّمهم في بلاده…”[7].
- تبعية العلماء للزعماء خيار منكوس
هذا النموذج هو أسوأ النماذج في قيادة الدول والمجتمعات والتنظيمات. وهو يقوم على أساس أن الكلمة الأولى والأخيرة للزعيم وللرئيس، وما على أهل العلم والفكر والرأي إلا أن يؤيدوا ما يقوله وما يفعله، سواء أصاب أو أخطأ، أحسن أو أساء. وحتى البرلمانات “المنتخبة” اليوم، مثل مجامع العلماء، لا يكون أمامها سوى أن تؤيد وتزكي ما صدر عن الزعيم، سواء بالتصويت أو بالتصفيق.
[1] ويروى في بعض الآثار: (العلم إمام العمل، والعمل تابعُه)
[2] الجواب الصحيح لابن تيمية/ 245
[3] مجموع الفتاوى:20/ 393
[4] أي لا يجوز لأهل الجهاد بالسيف أن يتعدوا ما يقتضيه العلم ويحدده
[5] أحكام القرآن 4/ 318
[6] يقصدون الخليفة العباسي
[7] الكامل في التاريخ 8/ 531