شخصيات وأعلامعاممقالاتمقالات الرأي

الذكرى الـ 99 لميلاد الإمام القرضاوي

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

في التاسع من سبتمبر يشرق فجر ذكرى ميلاد شيخنا الإمام العلّامة يوسف القرضاوي، ذلك العالم الربّاني الذي أودع الله في قلبه نورًا، وفي لسانه سلطانًا، وفي قلمه برهانًا، فغدا بين العلماء عَلَمًا لا يُجارى، وبين الدعاة رائدًا لا يُبارى.

ملأ الدنيا علمًا وفكرًا، وحرَّكها دعوةً ونصرًا، حتى صار صوتُه لسانَ الأمة الناطق، وقلبها الخافق، وضميرها الذي لا يهدأ ولا يسكن، يذود عن قضاياها، ويذبُّ عن هويتها، ويقف شامخًا في وجه الاستبداد والاحتلال، لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يبيع دينه بعرضٍ زائل.

جمع الشيخُ الإمام بين رسوخٍ في الفقه وأصوله، وبصيرةٍ في المقاصد وفروعها، ونَفَسٍ إصلاحيٍّ يُحيي الأمة بفقهٍ يربط بين النصوص وحِكمها، وبين الواقع وأحداثه، وبين الإنسان وهمومه، حتى انبثق من علمه فقهُ الوسطية الذي كان ميزانًا بين الإفراط والتفريط، وسراجًا بين الغلو والتسيب، ومنهلا عذبًا للأجيال الساعية إلى الحق المبين. عاش القرضاوي للعلم والعمل، للفتوى والتربية، للوعظ والتوجيه، فكان بحرًا زاخرًا لا ينضب، ومنارةً عالية لا تغيب، وأمةً وحده بين الأمم.

ولئن ودّعته الدنيا إلى دار الخلود، فقد أبقى فينا ميراثًا علميًّا لا يزول أثرُه، ولا ينقطع خيره: موسوعة الأعمال الكاملة التي انتظمت في مائة وخمسة مجلدات، حوتْ من علوم الإسلام ما تفرّق في بطون المراجع، وجمعت من ثمرات فكره ما يُغني القارئ عن غيرها، تضمّنها الفقه وأصوله، والتفسير وعلومه، والفكر وأفانينه، والدعوة ومناهجها، والنقد وتجلياته .. هي موسوعة ليست مجردَ أوراقٍ مُجمّعة، بل روحٌ حيّة، ومشروعُ عمرٍ كامل، وعصارةُ جhادٍ امتدّ قرنًا إلا قليلًا، يُخاطب بها الشيخُ الأجيال، ويدعوهم أن يتزودوا من زاده، ويستنيروا من مشكاته، ويُحيوا علمه في دنياهم كما أحياه في دنياه.

وفي ذكرى مولده، نقول: إنَّ الواجب علينا أن لا نقف عند حدود الرثاء ولا عند سطور الثناء، بل أن نُقبِل على إرثه إقبال المتعطش على الماء الزلال، وأن ننشره نشْرَ الرياح لنسيمها، وأن نُعرّف به تعريفَ الشمس بنفسها، وأن نشرح مضامينه شرحًا يُحيي القلوب، ويُثبّت العقول، ويَشحذ الهمم، ليَظلّ فكرُ الإمام حيًّا متدفقًا، يُنير للباحثين دروب العلم، ويهدي للأمة معالم النهضة، ويذكّر الأجيال أن العلماء الربانيين لا يموتون، بل يُخلّدهم علمُهم، ويُحيي ذكراهم جhادُهم، ويَبقى أثرُهم شاهدًا على أن الكلمة الصادقة قد تصنع أمة، وأن العالم الصادق قد يكون أمة وحده.

اللهم اجزه عن الإسلام وأمته خير ما جزيت عالمًا عن علمه، ومربِّيًا عن تربيته، ومجاhدًا عن جهاده، اللهم اجعل علمه نورًا ممتدًّا إلى يوم الدين، وكتبه صدقةً جاريةً لا ينقطع خيرها ولا يخبو أثرها، وأقم له في قلوب تلامذته ومحبيه ذكرًا حسنًا، وفي ميزان حسناته أجرًا عظيمًا، اللهم ألحِقه بالصالحين من العلماء العاملين، وارفع درجته في عليين، وأظلَّه برحمتك في جوارك، واجعلنا من السائرين على هديه، المستضيئين بأنواره، العاملين بما علَّم، المقتفين أثره في خدمة الدين ونهضة الأمة، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى