منهج التعامل مع الذكاء الاصطناعي في الحقل الشرعي.. من الحكمة إلى التطبيق

د. مسعود صبري
تتقدم المعارف والعلوم في كل عصر عن غيره من العصور، بما وهبه الله تعالى من ملكات وآلات لم تكن معروفة، اكتشفها أهل هذا الزمن من العلم الحديث، والإنسان بفطرته التي فطره الله عليها يسعى دائماً لتيسير الحياة وسبلها؛ حتى يذللها له، وهذه فطرة التسخير الذي تكلم القرآن عنها، من أن الله تعالى سخّر الأرض للإنسان، فجعلها طيعة له، وليس المقصود بتسخير الأرض هنا تسخير الحجر والبنيان فحسب، بل تسخير كل شيء في الحياة للإنسان، وكثيراً ما يذكر القرآن الكريم تسخير الشمس والقمر على وجه الخصوص، وهو معنى لافت للنظر، يستوجب التدبر فيه لغوص معانيه وسبر أغواره، ومعرفة أسراره.
لكن المتأمل للقرآن الكريم يجد أن كل شيء في الحياة مسخر للإنسان الذي هو خليفة الله في الأرض، وهذا من مقتضيات الخلافة، كما قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13).
التقدم العلمي من وجوه التسخير
وهذا التسخير يترجم على صورة التقدم العلمي بكل صوره وأشكاله، ويلاحظ أن غالب العلوم الإنسانية والتجريبية هي أسرع استفادة من هذا التقدم، وتبقى علوم الشريعة متوقفة أو مترنحة أمام كل تقدم، وعادة ما يخرج فريق من العلماء محذرين من كل جديد، يرونه بدعة لا يجب الإقدام عليه، ثم لما تنتشر تلك المعارف الجديدة، وتدخل كل بيت وباب؛ يجبر ذلك الفريق من العلماء على تغيير رأيهم؛ ليقولوا بجواز التعامل مع تلك الوسائل الحديثة لكن بشروط، ثم ما تنفك هذه الوسائل والمعارف أن تكون جزءاً من الحياة، وتتعدى حالة الإفتاء إلى حالة التعاطي والتفاعل معها.
الذكاء الاصطناعي من الوسائل لا الغايات
وهذا ما ينطبق على التعامل مع تقنية الذكاء الاصطناعي في كثير من مجالات علوم الشريعة وعلى رأسها الإفتاء، وإن أول شيء يطالعنا في هذا الموضوع هو حرمة الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في الإفتاء، وأنه لا يصلح أن يكون مفتياً، وذاك كلام صحيح، لكننا هنا نريد أن ننتقل من الاحتراز إلى تقديم رؤية شاملة، تجمع بين ضبط التعامل مع تلك الوسائل الحديثة، وبيان المنهج الذي يسمح باستعمالها واستخدامها والاستفادة منها، فكل تلك المعارف والعلوم هي من باب الوسائل المتغيرة وليست من باب المقاصد والغايات الثابتة.
وإن المجتمع المسلم –بل والعالم الإنساني- لا ينتظر فقط بعدم جواز الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الإفتاء؛ لأن الإفتاء حالة خاصة وتشخيص لحالة، ولكن المجتمع ينتظر من الفقيه والعالم ألا يقف عند تلك الحدود ببيان مواطن المنع والإحجام، إلى تقديم رؤية أوسع وأشمل من ذلك، فيبين مواطن القوة ومواطن الضعف، كما يبين التحديات والعقبات، ويظهر الفرص المتاحة للاستفادة، فلم يعد اليوم من المعقول أن نتعامل بالعقلية نفسها والمنهج ذاته دون تطوير الفكر الإسلامي في التعاطي مع العلوم والمعارف الحديثة، ونحن أبناء هوية وحضارة؛ كانت هي سيدة العالم يوماً ما، ومنهجها يدلها على أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
لقد حرم كثير من الفقهاء التصوير أول ما ظهر، فإذا اليوم كل الفقهاء يتصورون ويخرجون على ما هو أشد من التصوير الفوتوغرافي من الفضائيات وغيرها، كما حرم الفقهاء التمثيل جملة وتفصيلاً، فإذا به يغزو بيوتنا وغرف نومنا، وكلما اعتمد فريق من الفقهاء على الجمود والتحريم؛ ظهر في مقابله من يتوسع في الإباحة بلا شروط، ويتجاوز الناس في واقعهم كل تلك الفتاوى؛ لأنها لا تتماشى –في الغالب- مع الفطرة الإنسانية، وكأن فريقاً من المفتين لا يرى الناس في فتواه إلا أولئك المتدينين أبناء الدعوة والمساجد، وكأن المسلمين اليوم قد أتوا في العصور الفاضلة.
إن رؤية الاجتهاد المعاصر في العلوم والمعارف الحديثة يجب عليها أن تنتهج الاعتدال في فكرها وفقهها، وأن توازن بين النصوص الشرعية الثابتة، والوقائع والبيئات والعادات المتغيرة، وأن تدرك فقه النص، وفقه الواقع، وأن تستنير بمقاصد الشريعة وغاياتها السامية في الكون والحياة وأفعال الناس، وأن يراعى أن هناك فرقاً بين بيان الحكم الشرعي في النوازل والوقائع من جهة، والتدين ومستوياته من جهة أخرى.
فكل مسلم في سيره إلى الله وتدينه بهذا الدين هو نسيج وحده لا يتطابق مع غيره، فالجميع يحافظ على الثوابت والمسلَّمات، وهي إن كانت قليلة العدد، لكنها عظيمة القدر والأثر، وتتمثل –غالباً- في الواجبات والمحرمات القطعية، وما سواها، فمجال واسع النظر والاجتهاد، متنوع الأخذ والتطبيق، بما يناسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والمعارف والبيئات وغيرها من مؤثرات النظر والفكر والاجتهاد.
منهج الصحابة في التعامل مع المستجدات
ومن أراد أن يعرف منهج التعامل مع المعارف الحديثة كالذكاء الاصطناعي وغيره، فليراجع منهج الصحابة وخاصة الخلفاء الراشدين، كيف كانوا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، وبين المقاصد والوسائل، وبين القطعيات والظنيات، وكيف أدى ذلك بهم إلى فقه نصوص القرآن والسُّنة بمنهج لو اتبعه بعض علماء اليوم لاتُّهِموا بالتكفير!
ما أحوج علماء اليوم بالتأسي بمنهج الصحابة وخاصة الخلفاء الراشدين في التعامل مع المستجدات في عصرنا، فينظروا كيف أجمع الصحابة على جمع القرآن في كتاب أسموه مصحفاً، ولم يؤمروا بذلك؛ تفريقاً بين المقاصد والوسائل، وكيف أدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض الأنظمة في الحكم اقتبسها من فارس والروم مع إيمانه بكفرهم، وكيف قَبِل الجزية دون أن يسميها باسمها مراعاة لقبيلة تغلب العربية حين رفضت أن تدفع المال بهذا الاسم، ولم يقف عند اسمها، ما دام قد حصل مسماها.
ومن قبلهم قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة حفر الخندق ولم تكن العرب تعرف تلك الوسيلة، كما لبس النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأثواب التي لم تكن معروفة في الحجاز، فلبس الجبة اليمنية والجبة القبطية المصرية، وعرف عند الخلفاء الراشدين دليل تشريعي هو الاجتهاد بناء على السياسة الشرعية، فيقال: فعل ذلك سياسة، كما فعل عمر رضي الله عنه من إيقاع الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد ثلاثاً، ولم يكن كذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر، وكذا سنتين من خلافته.
كل ذلك يدعو العقل المسلم أن يتعامل مع التطورات العلمية الحديثة بعقل منفتح ابتداء، وأن ينظر كيفية الاستفادة منها في تطوير العلوم والمعارف الإسلامية، بما يخدم الشريعة الإسلامية والمجتمع المسلم، دون ذوبان بما قد تحمده تلك التقنيات الحديثة من قيم تخالف قيم الإسلام، فيفرق بين التقنية كآلة دون اعتناق عقيدتها.
وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الشعر ولم يحرمه، وقد كان الشعراء قبل البعثة يبدؤون شعرهم بالغزل ووصف الخمر وغيرها من المحرمات، لكن النبي صلى الله عليه وسلم حوّله من آلة هدم إلى آلة بناء، فكان لزاماً علينا أن نستفيد من آلة العطاء (كالذكاء الاصطناعي)؛ فنطوعها إلى آلة بناء يما يخدم الهوية والحضارة الإسلامية، وألا نكرر أخطاء من سبقنا؛ فنجمد عند كل حديث، ثم نضطر بعد عقود من الزمن أن نراجع موقفنا في التعامل معها، وتضيع الاستفادة منها سنين من حياة المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. مسعود صبري: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أستاذ الفقه والأصول المشارك.