رُهاب ذنوب الخلوات

كتبه:📝:الشيخ د. عبدالوهاب الطريري
تنتشر في وسائل التواصل عبارة تنسب لابن القيم تقول: «ذنوب الخلوات أصل الانتكاسات».
وقد بحثتُ عن هذه الكلمة فلم أجدها، وأظنّ أنّها لا تصح عن ابن القيم، ولو صحت عنه فلا تصح منه، وذلك أنّ الانتكاسات وقلّة المعافاة تقع في المجاهرة بالذنوب وليس بسترها، كما قال ﷺ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»( ).
فالمجاهر بالمعاصي من النادر أن يُقلع عنها أو يعافى منها؛ لأنه يظلّ يبرّر خطأه وخطيئته ويدافع عنها ويكابر عليها، أمّا الذي وقع في الهفوة سرًّا واستتر بها، فإنه يؤوب ويتوب، ويسأل الله المغفرة ودوام الستر، وهذا يُبيِّن أن الانتكاسات والإصرار على السيئات تقع للمجاهرين، وليس للمُستَحيِين المستترين. قال الحافظ ابن حجر: «الحديث مصرح بذم مَن جاهر بالمعصية، فيَستَلزِم مَدح مَن تستَّر، ومَن قَصَدَ التَّسَتُّر بها حياءً من رَبّه ومن الناس مَنَّ الله عليه بسَتره إيّاه»( ).
وهناك من يستدل على ذلك بحديث ثوبان أن النبي ﷺ قال: «لَأعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قالوا: يا رسول الله، من هم؟ صِفهم لنا، سمِّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»( ).
لكن هذا الحديث لا يصح سندًا، وهو منكرٌ متنًا، أمّا السند فقد ضعَّفه بعض أهل العلم، وبيّنوا علّته والتفرد في روايته( ).
ثم إن الحديث منكر متناً، وذلك:
أولًا: لمخالفته حديث ذمّ المجاهرين، ولذا اضطر بعضهم لحمله على المنافقين، ولكن هذا بعيد، لأنه وصفهم بقيام الليل، وهذا ليس بحال المنافقين، كما قال حذيفة لمن سأله عن النفاق، فقال له: «هل تصلي إذا خلوت وتستغفر إذا أذنبت؟» قال: نعم. قال: «اذهب فما جعلك الله منافقاً». فقيام الليل براءة من النفاق.
ثانيًا: في هذا الحديث معنى لم يرد في الشرع، وهو أن السيئات تُذهِب الحسنات، بينما الذي ورد في الشرع أن الحسنات يُذهِبن السيئات كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، وقال ﷺ: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا»( ).
لكن لم يأتِ في الشرع أن السيئة تذهب الحسنة، إلا الكفر، قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]. وهذا في المشركين والكافرين، أما المؤمن فلا يُضيعُ اللهُ شيئا منْ حسناتهِ، ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ [آل عمران: 195]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء: 40]، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7].
وهناك من الوعّاظ مَن جعلوا كلمة «ذنوب الخلوات» عنواناً لمواعظهم، فأوجدوا أزمةً عند الشباب الذين ابتُلوا ببعض الخطايا التي يستخفون بها، كمشاهدة المشاهد المحرّمة أو اعتياد عادة سرّيّة سيئة، فيظن أنَّ كل حسناته من الصلوات الخمس وصيام رمضان، وصلاة التراويح، وختمات القرآن، ستكون يوم القيامة هباءً منثوراً، بسبب نظرةٍ محرّمةٍ أو عادةٍ سيئةٍ يستسرّ بها؟!.
إن هذا يوقع الإنسان في أزمة وقلق وسوء ظنٍّ بالله عز وجل، وربما استجره الشيطان إلى الانتكاس واليأس من قبول العمل الصالح.
ولذلك نقول لكل من ابتُلي بخطيئةٍ يستسرّ بها: انوِ أنك لم تجاهر بها حتى لا يُقتدى بك، وانْوِ أنك لم تجاهر بها حتى لا تنشر المنكر في المجتمع، ولا تُشيع المعصية في الذين آمنوا، وانْوِ أنك تستتر بها لتتوب منها، واعزم على الإقلاع عنها، وسَلِ الله كما سترها أن يغفرها.
وإذا افترضنا أن الإنسان لا يخطئ في السر ولا في العلن، فكأننا نطلب من الناس أن يكونوا بشراً معصومين، أو ملائكة يمشون في الأرض مطمئنين.
وليس في هذا الكلام تهوين لخطايا السر ولا تجرئة عليها، ولكنه توجيه لمن ابتُلي بها ألّا يجمع مع ذلك الزهد في صالح العمل، وأن يكاثر السيئات بالحسنات؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأن يجاهد نفسه على الإقلاع عنها، ويتذكر قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]. وقول النبي ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»( ).
و أن تكون معاملتنا مع الله قائمة على حسن الظن به، ونتجنب ما يسلك بالناس طرائق الحرج ومسالك القنوط.
*ونسأل الله أن يحبِّب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين.*