على هامش معرض الكتاب… بين الغياب والحضور
أ. مصباح الورفلي
لم تكن زيارتي لمعرض الكتاب هذا العام مبرمجة، ولا مدرجة في جدول الأيام، بل جاءت صدفة تحمل في طياتها شوقًا مؤجلًا. ففي الأمس القريب، ساقني موعد عابر مع أحد أصحاب المكتبات إلى أروقة معرض النيابة العامة للكتاب المقام على أرض معرض طرابلس الدولي، فوجدت نفسي وسط عالم من الورق والحبر والعناوين التي تتنافس في لفت الأنظار واستدعاء القلوب.
كانت الخطوات الأولى مثقلة بشيء من الدهشة، فالمكان يضج بالحركة، والوجوه تتنقل بين الأجنحة بفضولٍ ثقافيٍّ جميل، والعناوين تتلألأ على الرفوف كما لو كانت نوافذ تطلّ على عوالم أخرى. رائحة الكتب الجديدة تنعش الذاكرة وتستحضر تلك العلاقة القديمة بين الإنسان والكتاب، بين القارئ وصفحاته الأولى، بين لحظة الاكتشاف ونشوة الفهم.
ومع ذلك، ظلّت زيارتي خاطفة لا تتجاوز التجوال السريع بين الأروقة. لم يكن الأمر عن عزوفٍ عن الثقافة أو فتورٍ في الاهتمام، بل لأن الانشغالات الاضطرارية وتراكم الالتزامات جعلت من الوقت خصمًا عنيدًا لا يُمهل للعقل فسحته التي يحب. فوق ذلك، كانت الظروف الاقتصادية وشحّ السيولة سببًا آخر لتلك الزيارة المترددة؛ فأسعار الكتب تضخّمت حتى بات اقتناؤها رفاهية ثقافية يصعب الوصول إليها.
كم من عنوان شدّني، وكم من رواية وددت أن أقتنيها، لكن اليد كفت، والعين اكتفت بالتأمل من بعيد. وفي تلك اللحظة شعرت أن العلاقة بين القارئ والكتاب لم تعد مجرد مسافة فكرية، بل مسافة مادية واقتصادية فرضتها ظروف الحياة.
وما زاد الأمر تعقيدًا هو ازدحام المكان عندي بالبيت، حال دون اقتناء بعض العناوين التي شدّتني حد الهوس، وانتابتني حسرة مترددة، يختلط فيها الشوق بالعجز، وأنا أرى الزوّار يغادرون محمّلين بما عجزت عن اقتنائه من كتب،لكن ما استوقفني بحق لم يكن الزوار المتهافتون على اقتناء الكتب، ولا الأسعار، بل ذلك الفراغ الثقافي المؤسسي الذي يُطل من وراء المشهد، أين هي المشاريع الثقافية المستدامة التي يفترض أن تواكب مثل هذه المعارض؟ أين دور الهيئة العامة للثقافة والمجتمع المدني في بناء فضاءات ثقافية دائمة تترجم هذا الحراك المؤقت إلى حضور مستمر؟
إن معرض الكتاب — على أهميته — يبقى فعالية موسمية، تضيء بضعة أيام ثم تنطفئ، تاركة وراءها أسئلة كثيرة. فلو كانت لدينا مكتبات أحياء حقيقية، لكان أثر هذه المعارض أعمق وأبقى. مكتبة في كل حيّ، في كل منطقة، تحمل روح المكان وتخاطب أبناءه، تفتح أبوابها للقارئ الذي لا يستطيع شراء الكتاب، وتقدّم له المعرفة بوصفها حقًّا لا سلعة.
تخيل لو أن هيئة الثقافة تبنّت مشروعًا وطنيًا واسعًا لإنشاء “مكتبات مجتمعية” تضم قاعات للقراءة، وأركانًا للبحث، ومقاهي ثقافية صغيرة تتلاقى فيها العقول، وتتحاور فيها الأجيال. تخيل لو كانت هناك أنشطة أسبوعية للقراءة الجماعية، وعروض مرئية للأفلام الوثائقية، ومنصات تفاعلية للباحثين وطلبة الدراسات العليا. كم من الطاقات ستُستنهض، وكم من الشباب سيجد نفسه بين دفّتي كتاب بدلاً من شاشات تلتهم وقته وتشوّه وعيه.
إن غياب مثل هذه المشاريع الثقافية لا يُقاس فقط بفقدان أماكن للقراءة، بل يُقاس بانكماش الوعي العام وضعف الحس الجمالي والفكري لدى المجتمع. حين يغيب الحضور الثقافي المنظَّم، تتراجع عادة القراءة إلى هامش الحياة، ويبهت لون الحوار، وتُختزل الثقافة في شعارات المناسبات.
القراءة ليست ترفًا ولا هواية، بل ضرورة لبناء الإنسان. والمجتمعات التي تهمل القراءة تفقد قدرتها على التفكير النقدي والإبداعي، وتستسلم لسطحية الإعلام السريع وثقافة الاستهلاك. من هنا، فإن غياب المكتبات العامة يعني غياب المناخ الحاضن للوعي، وغياب المساحات التي تُعيد ترتيب علاقة الإنسان بفكره وبيئته.
لقد أصبحت الهواتف الذكية ومواقع التواصل هي “المكتبات الجديدة” في نظر جيلٍ كامل، لكن أي معرفة يمكن أن تُجنى من محادثات عابرة ومقاطع قصيرة لا تترك أثرًا؟
إن تأسيس مكتبة في حيّ صغير، أو مركز قراءة في بلدة نائية، أكثر نفعًا من إقامة عشرات المعارض المؤقتة. لأن المعرض يُدهشك ليوم، أما المكتبة فتبنيك لعمر.
وليس المقصود هنا إلغاء المعارض، بل تحويلها من حدث إلى عادة، ومن موسم إلى منهج. أن يكون كل معرض انطلاقة جديدة لمشروع قراءة، أو لبذرة مكتبة، أو لشراكة مع المدارس والجامعات. أن تصبح الثقافة مسؤولية الجميع: الدولة، والمجتمع، والقطاع الخاص.
إن وجود مشاريع ثقافية مجتمعية سيخلق بلا شك حراكًا معرفيًا ينعكس على سلوك الأفراد. فالمكتبة العامة يمكن أن تُعيد ترميم العلاقة بين الشباب والكتاب، وتعيد للباحثين مكانًا يجدون فيه مصادرهم دون عناء. إنها تفتح آفاق التفكير، وتكسر عزلة المثقف، وتمنح للمدينة قلبًا نابضًا بالحروف.
وحين تتأسس المقاهي الثقافية وتُقام حلقات النقاش والعروض الأدبية في الفضاءات العامة، يتحول الحي من مكان للسكن إلى فضاء للمعنى، ويتحوّل المواطن من متلقٍ إلى شريك في صناعة المعرفة. فالثقافة لا تُبنى بالقرارات الإدارية وحدها، بل بروح المشاركة والانفتاح على الآخر.
لقد بات واضحًا أن الثقافة في مجتمعاتنا بحاجة إلى نقلها من المناسبات إلى الممارسات، من ضوء الكاميرا إلى ضوء المكتبة، من الخطابات إلى الفعل اليومي.
وحتى ذلك الحين، سيظل القارئ في رحلة بحثه بين المعارض والمكتبات الخاصة، يحاول اقتناص المعرفة من بين أكوام الورق وغلاء الأسعار، منتظرًا أن تمتد إليه يد المؤسسات الثقافية بمشروع حقيقي يُعيد له حقّه في القراءة.
فالمعرض وحده لا يصنع قارئًا، والمبادرات الفردية — رغم جمالها — لا تصنع حركة ثقافية وطنية. إنما يصنعها إيمان الدولة والمجتمع بأن الكتاب ليس سلعة، بل هو عماد التنمية والعقل.
لذلك، حين خرجت من المعرض، كانت الفكرة الأهم التي علقت بذهني ليست عن رواية جديدة أو كتاب لافت، بل عن سؤال كبير:
متى تصبح الثقافة في بلادنا نمط حياة، لا حدثًا عابرًا؟



