عامقضايامقالاتمقالات الرأي

ليبيا والفوضى الخلّاقة في سياق مشروع الشرق الأوسط الجديد

إعداد: د. علي جمعة العبيدي
رئيس مؤسسة شمال أفريقيا للدراسات السياسية والاستراتيجية

منذ أكثر من عقد، تعيش ليبيا في حالة انتقالية معلّقة؛ دولة لا هي في الحرب الكاملة ولا في السلم المستقر، ومؤسسات لا تكتمل، ونفوذ خارجي لا يتراجع. هذه الحالة لا يمكن فهمها فقط من زاوية الخلافات الداخلية أو الانقسامات الجهوية، بل ينبغي قراءتها ضمن مشروع أكبر أعاد تشكيل خرائط النفوذ في المنطقة بعد عام 2001، وهو ما عُرف أمريكيا بـ”الشرق الأوسط الجديد” القائم على فلسفة “الفوضى الخلّاقة”.

في هذا السياق، تبدو ليبيا اليوم ساحة نموذجية لتطبيق هذا المفهوم؛ دولة تم إسقاط نظامها السياسي بضربة عسكرية خارجية، ثم تُركت في فراغ مؤسسي وأمني واقتصادي، بينما تتزاحم فوق أرضها مصالح القوى الكبرى والإقليمية، وتُدار ملفاتها السيادية من خارج حدودها.

هذه القراءة لا تهدف إلى تعليق كل أزمات ليبيا على شماعة “المؤامرة الخارجية”، لكنها تحاول تفكيك الطريقة التي جرى بها توظيف هشاشة الداخل الليبي في مشروعٍ دولي أوسع، وكيف يمكن لصانع القرار الليبي أن يحوّل موقع بلاده من “ساحة فوضى مدارة” إلى “نموذج سيادة مدارة وواعية”.

الفوضى الخلّاقة.. من التنظير إلى الممارسة

ظهر مصطلح “الفوضى الخلّاقة” في الأدبيات السياسية الأمريكية الحديثة كأداة لتفكيك أنظمة قائمة وإعادة تركيبها بما يخدم مصالح واشنطن وحلفائها. وقد تمّ إضفاء طابع رسمي على هذا المفهوم في خطاب وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس عام 2005 حين تحدّثت عن أن “شرق أوسط جديدًا سيولد من رحم الفوضى”.

جوهر الفكرة يقوم على إنتاج حالة اضطراب منظّم: إسقاط أنظمة، إضعاف جيوش وطنية، خلق فراغات أمنية واقتصادية، ثم إدارة هذا الفراغ بما يمنع تشكّل بديل سيادي قوي. ليست الغاية بناء ديمقراطيات مستقرة، بل منع ظهور قوى معادية أو مستقلة عن المنظومة الغربية، وإبقاء الدول في حالة “اعتمادية دائمة” على الخارج.

بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، اتخذ هذا المفهوم شكل مشروع متكامل للشرق الأوسط، استند إلى ثلاثة مسارات متوازية:
• تغيير الأنظمة المناوئة أو غير المنسجمة مع الرؤية الأمريكية.
• فرض نماذج “التحرير الاقتصادي” عبر الخصخصة والانفتاح غير المتكافئ.
• دمج إسرائيل أمنياً وسياسياً في الإقليم، بوصفها ركيزة ثابتة للمنظومة الجديدة.

وبين الغزو المباشر كما في العراق، والفوضى الموجّهة كما في ليبيا وسوريا، والعقوبات والضغوط الاقتصادية والإعلامية كما في دول أخرى؛ تشكّلت خارطة تنفيذية واسعة لهذا المشروع.

لماذا ليبيا هدف مركزي في الحسابات الجيوسياسية؟

ليبيا ليست مجرد بلد عربي يعيش أزمة داخلية؛ موقعها الجغرافي وثرواتها وضعاها في قلب الحسابات الاستراتيجية الدولية:
• هي أحد أهم مزودي الطاقة لأوروبا، وبديل محتمل عن النفط الخليجي في حالات الأزمات.
• تشكل جسراً بين الضفة الجنوبية للمتوسط والعمق الأفريقي، بما يعنيه ذلك من تأثير على الهجرة والأمن والاقتصاد.
• تمثل نقطة ارتكاز لمراقبة وتوجيه التفاعلات في منطقة الساحل والصحراء، حيث تنشط التنظيمات المسلحة وتتنافس القوى الدولية.

لهذه الأسباب، لم تتعامل واشنطن مع ليبيا بوصفها ملفاً ثانوياً، بل سعت إلى إدماجها في مشروع الشرق الأوسط الجديد كركيزة لضبط توازنات الطاقة والأمن في شمال أفريقيا والمتوسط، وضمان ألا تتحول إلى قوة إقليمية مستقلة أو نافذة في عمق أفريقيا.

بعد عام 2003، انتقلت السياسة الأمريكية من محاولة احتواء النظام الليبي إلى خيار أكثر راديكالية: إسقاط الدولة من الأعلى عبر تدخل حلف شمال الأطلسي عام 2011، وترك المجتمع يواجه فراغاً هائلاً دون مشروع وطني بديل مكتمل.

هندسة الفوضى في الحالة الليبية: أدوات واشنطن الثلاث

لم يكن التدخل في ليبيا مجرد عملية عسكرية عابرة، بل جزءاً من هندسة فوضى طويلة الأمد، استُخدمت فيها ثلاث أدوات رئيسية متكاملة:

أولاً: الأداة العسكرية – تدمير القوة الصلبة

تولّى الناتو مهمة إسقاط النظام الليبي وإضعاف المؤسسة العسكرية، بحيث لا تعود قادرة على لعب دور الضامن لوحدة الدولة. صحيح أن ليبيا لم تنزلق إلى انهيار شامل كالذي حدث في دول أخرى، لكن جرى الإبقاء على وضع أمني هش، تتعدد فيه مراكز القوة والميليشيات، وتصبح الحدود مفتوحة أمام السلاح والمرتزقة والتدخلات الإقليمية.

ثانياً: الأداة الاقتصادية – التحكم في شريان الدولة

بالتوازي مع المسار العسكري، جرى تجميد جزء من الأصول الليبية في الخارج، وربط القرار المالي للدولة بمؤسسات مالية دولية، وفرض نماذج من “الإصلاح الاقتصادي” تعيد إنتاج التبعية بدل بناء اقتصاد سيادي منتج.
أصبحت عائدات النفط، وهي القلب النابض للاقتصاد الليبي، أداة ضغط غير مباشرة، وأحياناً ساحة صراع بين الفاعلين المحليين والخارجيين، في غياب رؤية وطنية موحّدة لإدارة الثروة.

ثالثاً: الأداة الإعلامية والثقافية – إعادة تشكيل الوعي

رافقت ذلك حملة واسعة لإعادة تعريف الهوية الليبية، وتشويه رموز الوطنية، وربط مفهوم الدولة حصراً بالاستبداد، وتقديم نماذج سياسية هلامية تحت شعارات “الإصلاح” و”الانتقال الديمقراطي” دون شروط سيادة حقيقية.
تمّ تمويل منظمات وقوى سياسية وثقافية جديدة، بعضُها يحمل ولاءات مرتبطة بالخارج، في محاولة لإنتاج “نخبة بديلة” تتبنى أولويات غير متطابقة مع المصلحة الوطنية الليبية.

النتيجة المباشرة لكل هذا لم تكن بناء نظام مستقر، بل إدارة فوضى مستدامة، تبقى فيها ليبيا ساحة نفوذ مفتوحة أكثر منها دولة مستقلة مكتملة الأركان.

ليبيا داخل بنية الشرق الأوسط الجديد

في المنظور الأمريكي، لا تُدار ليبيا بوصفها ملفاً منفصلاً، بل كجزء من شبكة أوسع تمتد من الخليج إلى الساحل الأفريقي. ويمكن تلخيص أهداف إدماج ليبيا في هذه البنية في أربع نقاط رئيسية:
1. ضبط موارد الطاقة عبر عقود طويلة الأمد ومؤسسات وشركات غربية تضمن استمرار التدفق الآمن والمضمون.
2. دمج ليبيا في منظومات أمنية متوسطية، بحيث تتحول إلى شريك تابع في ملفات الهجرة ومكافحة الإرهاب بدلاً من أن تكون فاعلاً سيادياً مستقلاً.
3. تمكين نفوذ إسرائيلي غير مباشر في شمال أفريقيا، عبر ترتيبات دولية وإقليمية تُضعف المواقف التاريخية الرافضة للتطبيع.
4. تذويب الخصوصية المغاربية ضمن هوية “شرق أوسطية” أوسع، تُدار إيقاعاتها من خارج العواصم العربية، وتُربط أكثر فأكثر بالمصالح الغربية.

تحديات اللحظة الراهنة: سيادة منقوصة وهوية مهددة

هذا المسار ترك آثاراً عميقة على الواقع الليبي، يمكن ملامستها في جملة من التحديات:
• فقدان القرار السيادي وتدويل الملف الليبي، بحيث باتت التسويات تتقدم أو تتراجع وفق موازين القوى الدولية لا وفق الإرادة الوطنية.
• ارتهان الاقتصاد الوطني لتوجيهات صندوق النقد والبنك الدولي، وضعف الأدوات الوطنية لحماية الثروة العامة.
• تصاعد الانقسامات الجهوية والقبلية التي تُستثمر سياسياً، ما يضعف فكرة الدولة الجامعة ويقوّض مشروع المواطنة.
• وهن الهوية الوطنية الجامعة لصالح هويات فرعية أو أيديولوجية متصارعة، في ظل اختراق ثقافي وإعلامي واسع.
• تزايد التدخلات الإقليمية التي تتعامل مع ليبيا كساحة نفوذ أو عمق أمني، لا كدولة ذات سيادة كاملة.

كيف يمكن لليبيا أن تواجه الفوضى الخلّاقة؟

إذا كان مشروع الفوضى الخلّاقة يستهدف تفكيك الدولة، فإن الردّ لا يمكن أن يكون بمجرد تسويات سياسية جزئية أو حكومات مؤقتة تتبدل من حين لآخر. المطلوب مشروع وطني سيادي شامل، يقوم على مجموعة من المحددات الاستراتيجية:

1.⁠ ⁠على المستوى الوطني
• توحيد المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية بوصفه أولوية مطلقة؛ فلا إصلاح اقتصادياً أو ثقافياً في ظل ازدواجية الشرعية والسلاح.
• تحصين القرار الاقتصادي عبر تشريعات واضحة للسيادة المالية، تضمن رقابة وطنية على الثروات، خصوصاً قطاع الطاقة، وتمنع استخدامه كورقة ابتزاز.
• إطلاق مشروع تنموي متوازن يربط توزيع الثروة بالعدالة الاجتماعية والتنمية المكانية، بما يخفّف من حدة الانقسامات الجهوية.
• إعادة بناء الجهاز الإداري والإعلام الوطني حتى يكون قادراً على تنفيذ السياسات العامة وحماية الوعي الجمعي من الاختراق.

2.⁠ ⁠على المستوى الإقليمي والدولي
• تعزيز التعاون المغاربي والأفريقي واستثمار العمق الجغرافي والتاريخي لليبيا في محيطها الطبيعي، بعيداً عن عزلها في إطار شرق أوسطي ضيق.
• بناء شراكات مع قوى الجنوب العالمي (مثل مجموعة “بريكس”، والصين، وروسيا) بما يوازن النفوذ الغربي ويخلق خيارات استراتيجية بديلة.
• اعتماد سياسة خارجية متوازنة ومستقلة، تقوم على عدم الانحياز لمحاور متصارعة، بل على تعظيم المصلحة الليبية في كل اتجاه.

3.⁠ ⁠على المستوى الثقافي والإعلامي
• بناء إعلام وطني مهني ومحصّن قادر على مواجهة حملات التضليل الخارجي وإعادة صياغة الرواية الليبية من الداخل.
• ترسيخ الهوية الليبية الجامعة التي تتسع للتعدد القبلي والجهوي والثقافي، لكنها تستقر على ثوابت وطنية مشتركة.
• دعم البحث العلمي والدراسات الاستراتيجية وتوطين صناعة القرار عبر مراكز بحث وطنية ترفد الدولة برؤية بعيدة المدى.

محددات القرار الاستراتيجي الليبي

حتى يتحول هذا التصور إلى سياسة فعلية، لا بد من إعادة تعريف محددات القرار الاستراتيجي الليبي في مواجهة مشروع الفوضى الخلّاقة، وأهمها:
• فهم طبيعة الصراع الدولي والإقليمي على ليبيا، وتجنّب الانخراط الكامل في أي محور على حساب آخر.
• توسيع مفهوم الأمن القومي ليصبح أمنًا شاملًا: سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وحدوديًا.
• تعزيز الشرعية الداخلية من خلال مشروع وطني جامع، لا عبر توافقات ضيقة أو تسويات فوقية.
• ضبط وإدارة الثروة الوطنية بوصفها ركيزة السيادة وليست مجرد موارد مالية.
• العودة إلى العمق الأفريقي كخيار استراتيجي مضاد للتطويق، واستثمار موقع ليبيا كبوابة بين المتوسط وأفريقيا.
• توطين المعرفة وصناعة القرار عبر مؤسسات بحث واستشراف وطنية مرتبطة بصانع القرار، لا خاضعة لتجاذبات اللحظة السياسية.

من الرؤية إلى التنفيذ: ملامح خريطة طريق

حتى لا تبقى هذه الرؤية في إطار التنظير، يمكن ترجمتها إلى خريطة طريق تنفيذية، من بين ملامحها:
• إطلاق ميثاق وطني للسيادة الليبية يحدّد الثوابت المشتركة فوق التجاذبات الآنية، ويشكل مرجعية لأي تسوية سياسية.
• تأسيس مجلس استراتيجي للأمن القومي يجمع بين الخبرة الأمنية والعسكرية والاقتصادية والبحثية، ويغذّي عملية صناعة القرار بالمعلومات والتحليل.
• إقرار برنامج وطني واضح لتوحيد المؤسسات بإشراف رئاسي أو سيادي مباشر، وفق جدول زمني محدّد وآليات رقابة شفافة.
• إعادة هيكلة قطاع الطاقة لضمان الشفافية والسيطرة الوطنية الكاملة على الإنتاج والتعاقدات والعائدات.
• تبني سياسة إعلام وطني مقاوم تعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتواجه السرديات التي تعمل على تفكيك المجتمع.
• توسيع الشراكات الدولية المتوازنة، خاصة مع القوى الصاعدة والعمق الأفريقي، بما يفتح هامش مناورة أوسع أمام القرار الليبي.
• اعتماد دبلوماسية تنموية تجعل من ليبيا محوراً للتعاون الإقليمي في الطاقة والبنية التحتية والتجارة، لا مجرد ساحة تنافس وصراع.

خاتمة: بين إدارة الفوضى وإدارة السيادة

ما يجري في ليبيا اليوم ليس مجرد أزمة انتقال سياسي، بل هو تطبيق عملي لنظرية الفوضى الخلّاقة ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد. لذلك فإن محاولة “ترقيع” الواقع القائم بحلول جزئية أو حكومات مؤقتة لن تنتج دولة ذات سيادة، بل ستُطيل عمر الفوضى بشكلها الحالي.

ليبيا تقف أمام خيارين تاريخيين واضحين:
إما أن تبقى ساحة مفتوحة لإدارة الفوضى من الخارج،
أو أن تتحول إلى نموذج لإدارة السيادة من الداخل.

تحقيق الخيار الثاني يتطلب قراراً وطنياً شجاعاً يضع مصلحة ليبيا فوق كل اعتبار، ويستعيد للدولة هيبتها وقرارها، وللمواطن ثقته، وللموقع الليبي دوره التاريخي في محيطه المغاربي والأفريقي والمتوسطي.

اللحظة ما زالت حرجة، لكنها لم تفُت بعد؛ وما يزال بإمكان الليبيين تحويل “الفوضى المفروضة” إلى نقطة انطلاق نحو “سيادة ممكنة” إذا توفرت الإرادة والرؤية والأداة الوطنية.

Related Articles

Back to top button