عاممقالاتمقالات تربوية

منهجية التشريع في النص القرآني في سورة الفاتحة

الشيخ د.فضل مراد

في هذا المعلم من فقه القرآن نتناول كيفية البناء الفقهي في كل سور القرآن بشكل استقرائي تام لنخرج بقاعدة كلية حاكمة هادية في الاستنباط تكون حاكمة على الاستنباط في المسائل المتقدمة والمعاصرة
ومعلما فقهيا استقرائيا من خلال كتاب الله سبحانه:

وتكلمنا في مقال سابق عن تسعة عشر مسألة في قوله تعالى: ( إهدنا الصراط المستقيم )
فقط
وفيما قبلها أضعاف تربو المسائل المستنبطة فوق المئة من الفاتحة:

ونحن الآن نتكلم عن لمحة منهجية الاستنباط في الفاتحة فنقول:

في سورة الفاتحة من معالم الاجتهاد في البناء الفقهي ومنهجيته ما يلي:

1_ الإخبار باختصاصه سبحانه وتعالى بالحمد الكامل ليس مجرد خبر بل هو أمر تكليفي بأن نحمده ونخصه بالحمد الكامل التام، وعليه:
_ فقوة الخبر بالجملة الإسمية
_ وما أفادت في تركيبها الدلالية من الاختصاص ( لله رب العالمين )
_ وما دل عليه الالف واللام (الحمد لله)
كل هذا يؤخذ منه الأمر وهو أسلوب تكليفي في القرآن الكريم فالآية سيقت تعريفا وتشريعا وأمرا.

2_ ذكر علل الأحكام في التشريع وقد علل سبحانه اختصاصه بكمال الحمد بربوبيته العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.
وهي الجملة كلها تعليل للحكم الشرعي.

3_ في قوله تعالى الرحمن الرحيم حذف للمتعلقات فدل على عموم الرحمة وشمولها جميع الخلق حتى الكافر له رحمة دنيوية وله أخروية وهي عدله سبحانه وتعالى معه وكونهم درجات ومراتب في العقاب
ففرعون وأمثاله والمنافقون في الدرك الأسفل وغيرهم لهم مراتب وهذا من عدله ورحمته.
لأن العدل متضمن للرحمة قطعا، بل لا يكون عدلا إلا بصفة الرحمة فكل عدل لابد أن يكون متلبسا بالرحمة بخلاف الظلم فهو مجانب للرحمة مطلقا.

4_ أسلوب الحصر والتقديم والتأخير في (إياك نعبد وإياك نستعين) أسلوب دلالي مهم في التشريع فهو هنا أفاد اختصاصه سبحانه وتعالى حصرا بالعبادة والاستعانة وأفاد التحريم القاطع لصرف أي نوع من العبادة والاستعانة بغيره.

5_ وفي إياك نعبد وإياك نستعين تحقيق للمناط فكل ما يصدق عليه أنه عبادة وأنه استعانة شمله الحكم الشرعي في النص وهو اختصاصه بالله.
فعمومه كل عبادة وكل استعانة من باب تحقيق المناط وهو تنزيل اللفظ على الحقيقة وإعطاؤها الحكم.
وهو من أصرح أنواع التكليف لأنه متعلق بحقيقة اللفظ القرآنية وتنزيلها في الواقع.
فمن حقق أن هذا عبادة وهذا استعانة لم يبق إلا أن يعطيه الحكم.

6_ ومن قوله تعالى ( اهدنا )صيغة افعل موضوعة إما للتشريع أو لغيره
فهذان قسمان
القسم الأول : صيغة افعل الواردة للتشريع في النص القرآن والنبوي للأمر التكليفي الإلزامي
فهي في التشريع والتكليف من الله ورسوله للعباد أمر يدل على الوجوب أصلا وعلى الندب بقرينه وهي كذلك في الوضع العربي حيث يأمر السيد و المدير والرئيس الموظفين والمرؤسين بصيغة افعل إذا أراد إلزامهم
والقرآن نازل حسب مخاطبات العرب ووضعها وما قامت الشريعة في النص القرآني والنبوي إلا على هذا في التكليف

فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وجميع الأوامر والنواهي في النص القرآن والنبوي موضوع للتكليف والإلزام به لا يشترك معه شيء من المعاني وإنما يصرف إلى الندب والإباحة بقرينه السياق ونوع التكليف.

فالندب نحو: الأمر بالسواك. فهو أمر لكنه مصروف للندب بدليل آخر هو تركه له في حالات كثيره وفعله في حالات وكذلك فعل الصحابة بين يديه.
والإباحة نحو: وإذا حللتم فاصطادوا فهي إباحة لما كان ممنوعا بسبب الاحرام.
وهذا معلوم بين باستقراء قاطع ولولا هذا لبطل التكليف والشرع من أساسه
فهذا الأصل هو أصل الشرع وأصل التكليف وهو قاطع. ومن مواضع الاستقراء أنها من العبد لله للدعاء بلا شك فهي موضوعة في هذا السياق لهذا

القسم الثاني: الأمر في غير التشريع والتكليف.
وأما غيرها من المعاني غير التشريعية فهي نوعان
النوع الأول: الأوامر في الآخرة
أما أوامر في الآخرة من الله تعالى:
كالأمر لأهل الجنة بالدخول والأكل والشرب فهذا كله أمر مقصوده التكريم والإنعام
وأما أمر أهل النار فهو للتبكيت والتحقير وغير ذلك
كقوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم )

النوع الثاني: الأمر في الدنيا في غير التشريع
كأمر الله للكفار بأن يأتوا بسورة فهذا مقصوده التحدي
وقوله تعالى: (كونوا حجارة للتعجيز)
وقوله تعالى: (كن فيكون) مقصوده الأمر التكويني ومثله كونوا قردة
وقوله تعالى: اصبروا أولا تصبرو مقصوده التسوية
وقوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر) مقصوده التسوية
وقوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للكافرين نارا)
أمر مقصوده التهديد.

وسوف نستقرئ الأوامر والنواهي والعموم والخصوص في كل سورة إن شاء الله
وسيأتي في البقرة زيادة في التحرير لهذا.

وقفة نقدية لأهل الأصول:

أما ما يبحثه الأصوليون من العلو والاستعلاء فهو ناتج عن تجريد صيغة الأمر وفصلها عن واقعها في النص القرآني، وإسقاط الواقع والعرف الذي يعيشه المصنفون على كشف معنى صيغة افعل
وهذا خطأ بل إن أردنا معرفة مراد الشرع بهذه الصيغة فالسبيل القاطع استقراء القرآن والسنة
التي من خلالها يتبين أن هذه الصيغة تنقسم إلى ما هي تشريعية وما هي غير ذلك كما تقدم.
ولهذا فطن بعض الأصوليين إلى أن وضعها للإلزام والإيجاب وضع لغوي شرعي فهو ممزوج بهما.

ولا علاقة للعلو والاستعلاء بالتشريع القرآني ولا يؤثر في الاستنباط فبحث العلو والاستعلاء لا معنى له.
والخلاف الأصولي في مثل هذه الألفاظ والأبواب سببه تحكيم العرف الجاري على اللفظة.
فيحصل اضطراب في هذا.
وخروج عن مقصود علم الأصول إلى التأصيل لغيره من العلوم.
ولهذا كثر الخلاف.

مع أن جميع العلماء متفقون على أن التكليف الالزامي في الكتاب والسنة من طرقه صيغة افعل وما جرى مجراها.
وأن التكليف بالواجب والفرض له أساليب متعددة غير صيغة افعل.
فالأمر يستفاد من صيغة افعل وكل ما أفهم الإلزام من غيرها. مثل يرضعن أولادهن.
فهو أمر يدل على الواجب ويختلف باختلاف الصيغ.

وانظر إلى ما قاله الأصوليون في سؤال هل يفيد الأمر التكرار والفور أم لا
فهو مبني على فروع وأمثله لا تبلغ أن تكون قاعدة على غيرها.
والقطع بجعل هذه قاعدة يجب أن يكون إما بالنص الشرعي كأن يقول ما أمرتكم فهو فرض
أو يكون بالاستقراء.

والصحيح أن استقراء الأوامر التشريعية الإلزامية في النص القرآني والنبوي يدل على التكرار والفور حسب مقتضياته.
فالصلاة والزكاة وكل العبادة عامة متكررة كل حسب مقضتياتها التشريعية
وأما من قال إن المرة كافية فهو واهم نتج وهمه عن إسقاط القول الأصولي أنه يدل على الإيقاع والمرة الواحدة ضرورة ولا يدل على التكرار
لهذا أخطأ من ذهب إلى القول أن الصلاة على النبي تجب مرة في العمر لأنها أمر مطلق والمرة الواحدة من ضرورات القيام به. فالصلاة عليه لها مقتضيات منصوصة في الأحاديث
ولا حد لها في التكليف، لكن المطلوب الإلزامي هو أن يقوم المرء بالصلاة عليه بما يخرجه من عهدة الأمر والذم.
ومن صلى عليه مرة في عمره فقط فلم يقم التكليف بل هو جاف عنه.
فكل أمر إلزامي مطلق الوقت مقصوده القيام به بما يخرجه عن الذم.
والقول بالفور كذلك مرتبط بمقتضياته
فالأمر بصلة الرحم يلزم فورا على مقتضيات الخروج من القطيعة فكل ما يعد في العرف خروجا عن القطيعة فهو واجب فوري.
ولم يرد التكليف الإلزامي بصلة الرحم إلا بهذا الضابط لأنه في غير هذه الحالة غير قاطع. فلا يشمله الإلزام.
دالة الصراط المستقيم وما لها من حقائق تدور حولها

تركيب دلالي رباعي يستفاد منه الحكم الشرعي:

6_ من آخر آية يؤخذ وجوب وتحريم بنوع دلالي تركيبي. وهذه الدلالة كثيرة في القرآن والسنة.
أما الوجوب فلزوم الطريق المستقيم وأهله وأما التحريم فكل سبيل غيره وأهلها
وهذا الحكم التكليفي بأربع دلالات تركبت منها الآية

دلالة أنه الهدى لذلك جاء بطلب الهداية (اهدنا) فيكون غيره الضلال بلا شك
وأنه مستقيم فغيره أعوج
وأن أهله الذين أنعم الله عليهم فهو طريق الله وأوليائه.
وأن غيرهم أهل الغضب والضلال. فهو طريق الشيطان وأوليائه.
فمجموع هذه الدلالات أفادت الإلزام القطعي بوجوب معرفة الصراط المستقيم ولزومه ولزوم أهله أي ما هم عليه وهم المنصوص عليهم
ولزوم معرفة سبل الغضب والضلال وهي كل ما خالف الصراط المستقيم واجتنابها ومعرفة أتباعها للحذر منهم.

7_ الصراط المستقيم دالة شرعية كالبوصلة تدل على الوجهة.
فكلما ذكر الصراط المستقيم ذكرت دلالاته وهي:
أ_ الإسلام والإيمان فهذا الصراط المستقيم
ب_ جميع الطاعات في الإسلام والإيمان
ج_ جميع كمالات التعبد الذي اشتمل عليه الصراط المستقيم ، والكمالات بلوغ الاحسان
ولا إحسان إلا بإحسان الباطن والظاهر فالأول في قوله تعالى (مخلصين له الدين)
والثاني: في قوله تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين
ويجمعهما قوله تعالى: ويكون الدين كله لله
أي ظاهرا وباطنا.
د_ أنه لا صراط مستقيم غيره فكل ما سواه غضب وضلال
ه_ أن هذه الدالة وهي الصراط المستقيم يترتب عليها النجاة وغيرها الهلاك
فالحاصل أن هذه الدالة( الصراط المستقيم) جملة صارت علما تدل على ما سبق.
والدلالة القرآنية هنا تفيد أن التشبيه من أهم معالم التشريع وهذا النوع من الاستعارة المعروفة
فالصراط المستقيم في اللغة هو الطريق الذي لا عوج فيه الموصل إلى المطلوب
فلما سمى الله دينه وشريعته بهذا (الصراط المستقيم )
فهمها كل المخاطبين الذين نزل بلسانهم ولم يختلج فهمهم لها أدنى اختلاج
فصارت عندهم علما واسما لدين الله وشريعته.
وهذا يدل أن مخاطبات الشرع تصير حقائق ثابتة من جهة الشرع.
ولا تعارض بالاستعمال اللغوي حين التعارض.
فالشرع له وضع حقائق أصلها حقيقة لغوية ولكنها صارت حقائق مستقلة شرعية فهو لغوية أصلا وشرعية مآلا.
8_ ما تشمله هذه الدالة الشرعية الصراط المستقيم
ذكر الصراط المستقيم في القرآن أربعين مرة وفي موضعه من كتابنا فقه القرآن بينا فقه ذلك

كتابنا: فقه القرآن دستور العالم المحفوظ

Related Articles

Back to top button