عامقضايامقالاتمقالات الرأي

ليبيا.. المختبر الأخطر للفوضى الخلّاقة وهدفٌ مركزي في الاستراتيجية الأمريكية

بقلم الدكتور علي العبيدي.

دبلوماسي ليبي.

هل كان سقوط نظام القذافي بداية تحرّر الدولة الليبية، أم بداية إدخالها عمدًا في هندسة فوضى لا تنتهي؟ هذا السؤال يفرض نفسه كلما عدنا إلى مسار الأحداث منذ عام 2011، وقرأنا ما جرى في ليبيا في ضوء مفهوم «الفوضى الخلّاقة» كما صيغ في العقل الإستراتيجي الأمريكي.

منذ مطلع الألفية الثالثة خرج هذا المفهوم من أروقة مراكز التفكير إلى خطاب البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، باعتباره أداة لإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا عبر الإصلاح التدريجي، بل عبر الصدمات الكبرى وتفكيك الدول وإعادة تركيبها. تصريح كونداليزا رايس عام 2005 عن «شرق أوسط جديد يولد من رحم الفوضى» لم يكن جملة عابرة؛ بل تلخيصًا مكثّفًا لرؤية كاملة لإدارة المنطقة. الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كان النموذج الأول: إسقاط النظام، حلّ الجيش، وتفكيك مؤسسات الدولة، ثم ترك البلد في فراغ أمني وطائفي ممتدّ. لاحقًا جرى توسيع هذا النموذج وتكييفه في ساحات عربية أخرى، وكانت ليبيا في مقدّمتها.

لماذا ليبيا تحديدًا؟

لأن هذا البلد يجمع بين حساسية الموقع ووفرة الموارد وخطورة الجوار. جغرافيًا، تشكّل ليبيا نقطة تماسّ حيوية بين المغرب والمشرق، وبين المتوسط وأفريقيا جنوب الصحراء. دولة ليبية قوية ومستقرة كان يمكن أن تكون ركيزة لتعاون مغاربيأفريقي مستقل، وشريكًا صعبًا في ملفات الطاقة والهجرة والأمن الإقليمي. أمّا دولة ملغومة بالصراعات والميليشيات، فهي ورقة ضغط دائمة على دول الجوار، وعلى أوروبا التي تواجه شواطئها الجنوبية موجات الهجرة غير النظامية.

اقتصاديًا، تمتلك ليبيا أحد أكبر احتياطيات النفط في أفريقيا، بنوعية جيّدة وتكلفة استخراج منخفضة. في زمن «ما بعد الاستعمار»، لم يعد مقبولًا احتلال الآبار بالقوّات، لكن يمكن هندسة مشهد سياسي هش، تتنازع فيه الحكومات والميليشيات ومراكز القوى، بحيث تبقى عقود النفط والغاز خاضعة لإعادة التفاوض المستمر، وتظلّ خطوط الإمداد أداة للابتزاز السياسي والاقتصادي.

سياسيًا وإقليميًا، كانت ليبيا قبل الفوضى مرشحة لأن تكون العمق الاقتصادي لمشروع تكامل مغاربي حقيقي، وربما جسرًا لمشاريع تكامل أفريقي مستقل عن الهيمنة الغربية. تحويلها إلى بؤرة فوضى يطيح بهذا الاحتمال، ويُبقي دول الجوار في حالة استنزاف أمني وحدودي متواصل، من تونس والجزائر إلى مصر والنيجر وتشاد.

في مارس 2011، صدر قرار مجلس الأمن 1973 تحت عنوان «حماية المدنيين»وفرض منطقة حظر جوي. خاض حلف الناتو حربًا جوية انتهت بإسقاط النظام، لكن من دون أي هندسة جدية لمرحلة ما بعد القذافي. سقطت السلطة المركزية، ولم تُبنَ مؤسسات أمنية وعسكرية وطنية موحّدة. على العكس، جرى تكريس منطق السلاح المنفلت، ومنح الميليشيات شرعية الأمر الواقع، فحلّ منطق المدينة والقبيلة محلّ منطق الدولة.

توزّعت مراكز النفوذ بين مصراتة والزنتان وبرقة وفزّان وغيرها، وتحولت ليبيا إلى فسيفساء من الكانتونات المتجاورة والمتصارعة، لا يجمعها عقد اجتماعي راسخ ولا سلطة مركزية قادرة. بالتوازي، تدوّل الصراع الليبي إلى حدّ غير مسبوق. فاعلون دوليون وإقليميون انخرطوا بثقلهم: الولايات المتحدة ودول أوروبية، تركيا وقطر، الإمارات ومصر، وقوى أخرى. الشعارات المرفوعة تنوّعت بين «دعم الشرعية»، و«مكافحة الإرهاب»، و«حماية المصالح الاقتصادية»، لكن المحصلة واحدة: ساحة حرب بالوكالة، لا يُسمح فيها بقيام تسوية وطنية مستقلة.

الفراغ الأمني الذي نشأ كان البيئة المثالية لتمدّد التنظيمات المتطرّفة. ظهر تنظيم «داعش» في سرت ومناطق أخرى، وعاد اسم «القاعدة» للظهور بأشكال مختلفة. ثم استُخدمت هذه التنظيمات لاحقًا ذريعة لتكريس التدخلات الخارجية تحت شعار «الحرب على الإرهاب»، بينما بقي الإرهاب نفسه أحد تجليات الفوضى التي صُنعت سلفًا.

السردية الغربية الرسمية تميل إلى تصوير ما جرى في ليبيا بوصفه «فشلًا» في إدارة مرحلة ما بعد الصراع، أو «سوء تقدير» لمرحلة ما بعد إسقاط النظام. غير أن قراءة الحالة الليبية في ضوء مفهوم الفوضى الخلّاقة تقدّم تفسيرًا أكثر اتساقًا: الفوضى هنا ليست أثرًا جانبيًا لمخطّط إصلاحي، بل أداة مقصودة لإبقاء الدولة في منطقة رمادية؛ لا تنهار بالكامل، ولا تنهض كدولة مستقلة متماسكة.

يمكن رصد ثلاثة أهداف مركزية لهذه الفوضى في الحسابات الأمريكية والغربية.

أولًا، ضبط تدفّق الطاقة والتحكم فيه. وجود سلطة ليبية واحدة قوية وذات قرار سيادي مستقل ليس خيارًا مفضّلًا لمن اعتادوا إعادة تشكيل عقود النفط والغاز وفق موازين القوى. أمّا تعدّد مراكز القرار والسلطات، فيبقي باب التفاوض مفتوحًا والضغوط ممكنة في كل لحظة.

ثانيًا، استخدام ملف الهجرة غير النظامية كورقة ضغط على أوروبا. مع غياب دولة قادرة على ضبط السواحل، تتحوّل ليبيا إلى منصة انطلاق لعشرات الآلاف من المهاجرين نحو الضفة الشمالية للمتوسط. هذه الورقة تُستخدم في المساومات بين القوى الكبرى، وفي الداخل الأوروبي في المزايدات الانتخابية، وفي إدارة العلاقة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين.

ثالثًا، إضعاف جوار ليبيا العربي والأفريقي وإشغاله عن مشاريع التنمية والتكامل. مصر تُستنزف أمنيًا على حدودها الغربية، تونس تواجه تهريبًا وسلاحًا وهجرة، الجزائر تتحسّب لامتداد الفوضى نحو عمقها الصحراوي، ودول الساحل تواجه تهديد تمدّد الجماعات المتطرّفة والسلاح الثقيل. النتيجة: حزام توتر دائم حول ليبيا، يمنع تبلور أي محور إقليمي مستقل.

مع ذلك، لا يمكن تعليق كل شيء على شماعة «التآمر الخارجي» وإعفاء الداخل الليبي والعربي من المسؤولية. فاستراتيجية الفوضى الخلّاقة لا تعمل في فراغ؛ بل تحتاج إلى بيئة داخلية هشّة: نظام فردي طويل العمر، مؤسسات قائمة على الولاء لا الكفاءة، نخب سياسية متناحرة، وبنية قبلية وجهوية مشحونة، وغياب ثقافة التوافق الوطني. سقوط النظام في ليبيا كشف هذه التصدّعات دفعة واحدة، من دون أن يوجد مشروع وطني متوافق عليه لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة.

المعادلة إذن مزدوجة: إرادة خارجية تسعى إلى توظيف الفوضى، وواقع داخلي يسهّل هذا التوظيف ويمنحه أدواته. تجاهل أحد الطرفين يقدّم صورة ناقصة، لكنه لا يغيّر من حقيقة أن ليبيا كانت ولا تزال هدفًا مركزيًا في مشروع إعادة هندسة الإقليم، وأن استمرار الفوضى فيها ليس تفصيلًا محلّيًا، بل جزء من لوحة أوسع تمتد من العراق إلى سوريا واليمن.

الخروج من هذا المأزق ليس مستحيلًا، لكنه يحتاج إلى شروط صعبة. ليبيًا، المطلوب إعادة الاعتبار لفكرة الدولة الوطنية الجامعة فوق منطق القبيلة والمدينة والميليشيا؛ عبر دستور توافقي يضمن توزيعًا عادلًا للثروة والسلطة، ويؤسّس لمؤسسات عسكرية وأمنية موحّدة، تحت قيادة سياسية شرعية ورقابة شعبية حقيقية. كما يتطلّب الأمر تحييد ملف النفط قدر الإمكان عن الصراع السياسي، من خلال آليات شفافة لإدارة العائدات، تعيد بناء الثقة بين الأقاليم وتقلّل من قابليته للتوظيف الخارجي.

عربيًا وأفريقيًا، لا ينبغي أن تبقى ليبيا ساحة تنافس بين محاور متصارعة تتعامل معها كغنيمة نفوذ. استمرار الفوضى في ليبيا تهديد جماعي للأمن القومي العربي والأفريقي، لا فرصة لتسجيل نقاط في لعبة المحاور. من هنا تبرز ضرورة بلورة موقف عربيأفريقي مشترك، يضع حدًا لتدويل الأزمة، ويرعى مسار تسوية ليبيةليبية يحترم سيادة القرار الوطني.

أما دوليًا، فإن دور الأمم المتحدة يحتاج إلى الانتقال من إدارة الانقسام وشراء الوقت إلى تفكيك اقتصاد الحرب، وضبط تدفّق السلاح، وإنهاء ظاهرة المرتزقة والميليشيات، وربط أي تسوية سياسية بضمانات حقيقية لوحدة التراب الليبي واستعادة سيادة الدولة على حدودها ومواردها.

ليبيا اليوم ليست مجرد حالة خاصة، بل إنذار مبكر لما يمكن أن تؤول إليه أي دولة عربية حين تجتمع هشاشة الداخل مع شهية الخارج. دولة تفيض ثرواتها عن حاجات شعبها، لكنها غارقة في نزاع مزمن، تتحكم فيها البنادق أكثر مما تحكمها صناديق الاقتراع، وتُدار ملفاتها الكبرى في عواصم أخرى أكثر مما تُدار في عاصمتها. ولن تخرج ليبيا من كونها مختبرًا للفوضى الخلّاقة ما لم تحسم نخبها خيارها لصالح دولة المواطنة والقانون، لا دولة المحاور والميليشيات.

Related Articles

Back to top button