عاممقالاتمقالات فكرية

آلهــة الحـداثــة

آلهــة الحـداثــة

أ. محمد خليفة نصر

تحتل “الدولة” بين آلهة الحداثة موقع هبل عند عرب الجاهلية الأولى، وموقع جوبيتر عند الرومان، وموقع أورانوس عند الإغريق، وموقع آمون عند المصريين القدماء. وليس لهذا الوصف الموجز لتاريخ تعدد الآلهة من هدف سوى تبيان أن الظاهرة عابرة للأجيال والحضارات، فما من حضارة من حضارات المشركين إلا ولها كبير للآلهة.

في هذا السياق فقط يمكن فهم قلق إبراهيم عليه السلام وهو يبتهل إلى الله عند البيت: “رب اجعل هذا البلد آمنًا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام. رب انهن أضللن كثير من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم”. ولا يعكس الدعاء القلق فقط، بل يعكس إدراك إبراهيم عليه السلام لما يقع في مستقر العادة من اتخاذ الناس للأصنام آلهة، كما يعكس توقعه بأن يحدث ذلك من بعض أبنائه، ولذا تمنى على الله ان يشمل بالمغفرة والرحمة من لم يتبعه منهم.

ارجو أن يدرك القارئ أن هذا الكلام لكاتب من ملة إبراهيم: “ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصاحين. إذ قال له ربه أسلم قال اسلمت لرب العالمين”!
كما ارجو أن يدرك القارئ أن كاتب هذه الكلمات يعتقد أن قول الله تعالى: “ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل وهو في الآخرة من الخاسرين” ينصرف إلى العبادة كما ينصرف إلى التفكيرـــ هذه هي ملة إبراهيم. وأنا لا ارجو بهذا غير تنبيه المسلمين إلى أن البعض من غير المسلمين أعمق فهمًا لظاهرة أصنام الحداثة من المسلمين، الذين يُفترض فيهم اجتناب الآلهة المتعددة في عالم الأفكار بقدر اجتنابها في عالم الأحجار. وهذا يوصلني إلى الثورة باعتبارها الإله الثاني في آلهة الحداثة.

الثورة هي آلية تغيير الإله في عالم لا يرى غضاضة في الشرك، ويملاْ فضائه بآلهة لا حصر لها، وكما سنرى تفصيلاً بعد قليل! في هذا السياق سأشرح موقف هانز كلسن ، من قضية “القاعدة المفترضة” التي تعلو الدستور في “النظرية الخالصة للقانون”.

وقد يبدو هذا الكلام غايةً في التعقيد بالنسبة لعامة الناس لكن قصدي لا يتجاوز جعله كتابًا مفتوحًا لمن أراد معرفة أثر الثورة في عالم القانون الوضعي حيث تتعدد الآلهة التي تأذن بما لم يأذن به الله (سفك الدماء وسلب الأموال). وسأشرح فيما بعد كيف تتدخل الثورة بوصفها الإله الذي يغيّر “القاعدة المفترضة”، التي يستمد منها الدستور نفاذه وصلاحيته.
وتعتمد الثورة على إرادة إله آخر أسمه “الشعب”! وفي هذا السياق لا بد أن القارئ قد صادف عبارة “أصبح الشعب إلهًا” في قول بعض الشعراء أو الادباء والكتاب. أما عبارة “السيادة للشعب” فلها نفس مضمون ومفعول “أصبح الشعب إلهًا”. وسنرى كيف كانت إرادة الشعب وإرادة الله شيئًا واحدًا عند جان جاك روسو الذي كان كتابه “العقد الاجتماعي” انجيل الثورة والثوار في فرنسا سنة 1789.

وقبل قرن من زمن الثورة الفرنسية قامت ثورة إنجليزية (سنة 1688) وانتهت بالكشف عن خواء نظرية الحق الإلهي للملوك، وبطلان ذاك الحق بالتبعية لبطلان النظرية التي قام عليها.

سميت تلك الثورة “الثورة المجيدة”، وكان من آثارها صدور “قائمة الحقوق”، التي أعلنت أن الشعب هو مصدر سلطات الملك. وبذا أصبح ملك الانجليز مدينًا بملكه للشعب! ومن بوسعه إلغاء حقًا إلهيًا (حق الملوك) لا بد أن يكون هو الآخر إلهًا يتصرف في مملكة الباطل حيث تتعدد الآلهة. وكانت الثورة هي الإله الذي حكم بنقل الألوهية للشعب بعد أن كانت لثالث ثلاثة في أوربا المسيحية.

في هذا العالم؛ عالم البحر المتوسط وما حوله من أمم وشعوب وحضارات، ما انفك الصراع يدور بين المشركين، من رموز عالم تعدد الآلهة، والذين لا يجعلون مع الله إلهً آخر. وقد ظل هذا الصراع يجري عبر حقب تمتد بين قدماء الفراعنة والفراعنة المعاصرين، غير أن الغافل لا يرى فيما يجري في أوقات متباعدة وحدة الظاهرة: ظاهرة الشرك وتعدد الآلهة.

وهذا القدر من الفهم يجعل الإنسان يدرك أن اختلافات الأشخاص في عالم الأشياء (مثل السلطة والثروة) قليلة الأهمية مقارنة بالصراع الفكري، في عالم العقائد والحضارات المؤسسة عليها. وبمثل هذا الفهم ندرك حقيقة أن المسلمين جميعًا من أيام موسى عليه السلام وحتى يومنا هذا قد ظلوا في صراع مع المشركين ومحل اضطهادهم، لأن المسلمين لا يجعلون مع الله آلهة أخرى، الأمر الذي يجعلهم أعداء لرموز النظام القائم.

في السياق السالف بيانه؛ لا يختلف فرعون وملك الانجليز وملك الفرنسيين وملك المصريين عن جمال عبد الناصر لأن جميعهم من عالم تعدد الآلهة (عالم الاصنام والفراعنة)، وعدوهم الابدي هم الذين لا يجعلون مع الله إله آخر، سوى كانوا من ذراري بني إسرائيل أو من ذراري الإخوان المسلمين. فرعون استخف قومه فأطاعوه؛ في مصر القديمة ومصر المعاصرة. وما يجعل من فرعون فرعونًا هو خفة الشعب المهرج، الذي يجعل منه البعض إلهًا!

الشعب من جهة إله، ومن جهة أخرى يحكمه فرعون (الزعيم) الذي يظن أن بإمكانه أن يكون الرب الأعلى. والمشرك يعبد الحجر (الصنم) إن لم يعبد البشر (فرعون أو الزعيم). والزعيم ( = البطل) هو أحد آلهة الحداثة التي هيمنت على أوربا بداية، ثم انتقلت إلينا عبر التعليم فلوثت عقيدتنا وكدرت معيشتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى