اجتماعيةمقالاتمقالات تربوية

أولويات الدعاة زمن الكوارث

د.خالد حنفي

 

منذ أن وقع الزلزال الرهيب الذي ضرب مناطق واسعة من تركيا وسوريا، ومواقع التواصل الاجتماعي تحفل بالنقاشات والردود الناقدة والرافضة لخطاب عدد من مشاهير الدعاة الذين راحوا يقطعون دون تردد بأن الزلازل عقوبة إلهية، وأنها نزلت بمن نزلت بهم عقوبة لهم على ذنوبهم ومعاصيهم، مستشهدين لكلامهم بنصوص وآثار لم تصح، مرفوعة أو موقوفة، أو بنصوص صحت سندا لكنهم أخطؤوا في تأويلها وسوقها دليلا لما أرادوا تقريره.

وهذا الخطاب التقريعي التخويفي المنفر من الدين سيطر على المنابر الوعظية حينا من الدهر، ولولا أن مواقع التواصل سهلت نقله ونقده ورفضه من قبل الجماهير العريضة من المسلمين لاستمر في الحضور والظهور والتأثير السلبي على عقول ونفوس الناس المكلومين منهم والبعيدين عن الجراحات والآلام.

وهذه الحالة تعكس واقع الخطاب الدعوي المعاصر، وافتقاده لترتيب الأولويات، وافتقاره للوصل بين النصوص الجزئية إن صحت وكليات الشريعة وأصولها العامة، وعجزه عن التقدير الصائب للمواقف والتوجهات، والواجب اغتنام الحدث في تصويبه وترشيده، وهذا الخلل الأولوياتي لصانعي الخطاب الديني ورموزه ومشاهيره هو جزء من الخلل العام القائم في الأمة تفكيرا وتصورا وعملا.

ويمكننا إيجاز أولويات الدعاة زمن الكوارث فيما يلي:

أولا: أولوية التثبيت والتطمين على التقريع والتخويف

يكاد قلب المرء أن ينخلع وهو يتابع أهوال وأحوال أهالي المنكوبين المنتظرين مع فرق الإنقاذ بلهف أخبار أولادهم وأهلهم وأقاربهم، وحين يضع المرء نفسه للحظة مكانهم يزداد قلبه خفقانا وفرقا؛ إذ يكفي أن تتخيل بقاء أب أو أم حيا تحت الأنقاض لأيام وساعات يشاهد ابنا له أو بنتا يصارع الموت لا يملك له أو لنفسه شيئا، وربما سقط حائط على يده أو ساقه وهو يتألم أو يسمع أنين من حوله لساعات حتى يغيب عن الوعي، وغيرها من أحوال وأهوال تجعل الناجين من أقارب وعائلات، أولئك المنكوبين والمضارين، بحاجة إلى من يربط على قلوبهم ويمسح دموعهم ويصبرهم ويجبر خاطرهم بكلمة طيبة تبشرهم وتريح قلوبهم على أقاربهم وأهلهم، لا من ينذرهم ويبغض الدين والدنيا إليهم بتقريره وهو متكئ على أريكته أن ما وقع لهم عقاب لهم على ذنوبهم!

لقد كنت أثناء نقاشنا في لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حول فتاوى الزلزال أتأمل فيما وراء الأسئلة الواردة من فرق الإنقاذ وميادينه وأقول: اللهم لطفك بعبادك المنكوبين، اللهم أريتنا قوتك فأرنا رحمتك وأنزل الصبر والسكينة عليهم؛ لأن من بين الأسئلة: ما حكم دفن قتلى الزلزال دون تغسيل أو تكفين؟ وما حكم الدفن الجماعي لهم؟ ما وقع هذه الأسئلة على أهالي الضحايا والمنكوبين؟ بل كيف بمن لا يعرف أين عائلته أبين الأحياء أو الأموات، وغاية أمله أن يدفنهم ويواريهم التراب ويعرف مكانهم.

هذا الحال يجعلنا نقطع بأن من يتبنى خطابا تقريعيا تخويفيا يوجهه لهؤلاء الناس لا فقه له في دين الله، ولا يملك قلبا يشعر معه بألم الناس ومصابهم، ولعله بحاجة إلى علاج نفسي قبل تفقيهه وترشيده!

والواجب تصبير الناس على المصاب، وتبشيرهم بالأجر الذي أعده الله لأهلهم الذين قضوا في الزلزال، فقد بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم شهداء، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، والشهيد يختاره الله ويصطفيه لمحبته وفضله كما قال تعالى: “‌ويتخذ ‌منكم شهداء” [آل عمران: 140]، فالشهداء مصطفون ومختارون ومفضلون عند الله، والواجب أن نفرح لهم لا أن نحزن عليهم، وللقاضي عياض توجيه لطيف لسبب رفع من مات تحت الهدم أو الحرق أو الغرق وغيرهم إلى درجة الشهداء فقال: “وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفضيل الله على أربابها، لشدتها وعظيم الألم فيها، فجازاهم الله على ذلك بأن جعل لهم أجر الشهداء، أو يحتمل أنهم سموا بذلك لمشاهدتهم فيما قاسوا من الألم عند الموت وشدته ما أعد لهم كما أعد للشهداء”.

نبشرهم بالأجر الذي أعده الله للمبتلين، ومن الأحاديث الجليلة التي تضمد جراح المبتلين بفقد الأحبة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض) رواه الترمذي، وحسنه الألباني.

إن واجب الدعاة اليوم أن يذهبوا إلى المناطق المنكوبة، وأن يكونوا إلى جوار أهالي المفقودين، وأن يواسوهم ويصبروهم ويبشروهم ويطمئنوهم، والواجب على الدعاة أيضا الاستمرار في قنوت النوازل في الصلوات الخمس لحديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على أحياء من العرب ثم تركه، وفي لفظ للبخاري: قنت شهرا حين قتل القراء فما رأيته حزن حزنا قط أشد منه. والاستمرار في القنوت مشروع حتى يزول أثر الزلزال وتعود الحياة في مناطق وقوعه إلى طبيعتها.

ولا حرج أيضا من صلاة الآيات في المساجد أو في البيوت كالزلزال الذي نحن فيه؛ حيث جوز هذه الصلاة الحنفية ومن وافقهم فقالوا: “تستحب الصلاة في كل فزع كالريح الشديد والزلزلة والظلمة والمطر الدائم لكونها من الأفزاع والأهوال، وقد روي أن ابن عباس صلى لزلزلة البصرة”، خلافا لجمهور الفقهاء الذين قالوا لا يصلى لغير الكسوف والخسوف.

لا يصح أن يكون عدم الوثوق ببعض المؤسسات والهيئات الإغاثية أو حالات النصب وسرقة المساعدات في مناطق الزلزال سببا في التقاعس عن المساعدة والنصرة، وإنما علينا أن نتحرى عن الجهة الأوثق ونتبرع لها دون تردد، وأجرنا على الله

ثانيا: أولوية الواجبات العملية على الأقوال النظرية

كل داعية له جمهور ومتابعون يثقون به ويتأثرون بخطابه، قلّوا أو كثروا، مطالب اليوم بدعوتهم وحثهم على الفعل والعمل لا القول والاكتفاء بنشر الفيديوهات والصور للضحايا أو الناجين، وأهم واجب يتعين علينا المصير إليه هو النصرة والإغاثة والمواساة بالمال والتضرع إلى الله بالدعاء، ونحن بحاجة إلى إغاثة وإنفاق مستدام يتناسب مع حجم الزلزال والأضرار والآثار التي نتجت عنه.

ولا يصح أن يكون عدم الوثوق ببعض المؤسسات والهيئات الإغاثية أو حالات النصب وسرقة المساعدات في مناطق الزلزال سببا في التقاعس عن المساعدة والنصرة، وإنما علينا أن نتحرى عن الجهة الأوثق ونتبرع لها دون تردد وأجرنا على الله، ولابد أيضا من تربية وتدريب أولادنا على الشعور بإخوانهم من الأطفال الذين قضوا وجرحوا وأن يتبرعوا من مصروفهم، وأن ننمي الحس الإنساني والتراحمي فيهم.

وعلى المسلمين في الغرب أن يتوجهوا إلى غير المسلمين بطلب النصرة والمساعدة، وأن يحيوا الحس الإنساني فيهم، وهو موجود حاضر بفضل الله وقد رأينا مسارعتهم إلى النصرة والمساعدة في مشاهد مختلفة.

ورغم أن تبرع المسلمين في أوروبا بالمساعدات العينية أمر حسن ويسد حاجات لكثيرين من المضارين بالنظر إلى أن ملابس تكون عادة بحالة جيدة، فإنني لا أفضل هذا المسلك في هذه الظروف، وأميل إلى أن يجود الإنسان بأفضل ما عنده وأن يتصدق بما يحب أن يلبس وأن يراعي نفسية من يعطيهم ويبذل لهم، قال تعالى: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما ‌تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم” [آل عمران: 92]، فهل نحن نحب لأنفسنا الجديد أم القديم المستعمل؟ ولعل بذل المال أنفع في هذه الظروف، لأنهم به يشترون ما يريدون وهو أسرع في تحقيق المراد مع توفير نفقات الشحن والإرسال.

وقد أفتت المجامع الفقهية بجواز تعجيل زكاة المال قبل وقتها لعام أو أكثر حسب الحاجة، كما أفتت الشؤون الدينية التركية بجواز تعجيل زكاة الفطر قبل رمضان وهو قول الأحناف خلافا لجمهور الفقهاء الذين لم يجوزوا دفعها قبل رمضان.

(( هذا الحدث فرصة للدعاة والمفكرين المسلمين أن يتحدثوا إلى الشباب وأن يجيبوا عن الأسئلة التشكيكية))

ثالثا: أولوية تصحيح المفاهيم ورد الشبهات على تكرير المعلوم والمحكمات

إن هذا الحدث وكل كارثة طبيعية تقع للمؤمنين يعاد معها “سؤال الشر”، والحديث المتكرر عن نزول المصاب والبلاء بالمؤمنين ونجاة الكافرين والمستبدين الظالمين، ولماذا يموت هذا العدد من الأطفال الأبرياء، وقد طرح هذا السؤال وألح عليه فلاسفة الإلحاد مثل: دافيد هيوم وجون ليزلي وغيرهما، وقالوا إن الإله يوصف بالعدل والقدرة والرحمة، فلماذا يترك الشر يقع في الكون؟ إن كان قادرا فليمنعه، وإن لم يمنعه فإما أنه عاجز، وإما قادر ولكنه لا يريد، فكيف يكون رحيما؟ وقد تأثرت شريحة من شبابنا المسلم بهذه الأسئلة، فتشككت في الدين وربما ألحد بعضهم وذهب بعيدا.

وهذا الحدث هو فرصة للدعاة والمفكرين المسلمين أن يتحدثوا إلى الشباب، وأن يجيبوا عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة التشكيكية، وبيان أن طرح السؤال من المسلم يعني أنه يريد الانتقال به من دائرة العبودية لله إلى دائرة المناظرة، وعلى الدعاة أن يغتنموا الحدث لرد الناس إلى الدين بدلا من التألي على الله والجزم بأن الزلزال عقوبة من الله للناس على ذنوبهم وبعدهم عن ربهم!

وعلى الوعاظ أن يقرؤوا لأولئك الملاحدة خاصة من عاد منهم للإيمان بوجود إله مثل الفيلسوف البريطاني أنتوني فلو الذي يعتبر أستاذ الإلحاد وقدوة الملحدين المعاصرين، في كتابه “هناك إله.. كيف غير أشهر ملحد رأيه”، وقد كان سؤال الشر أحد أهم الأسباب التي أخذته إلى الإلحاد، وعليهم أيضا أن يتحاوروا مع الشباب وأن يوظفوا وسائل التواصل للإجابة على أسئلتهم وفهم طريقة تفكيرهم.

رابعا: توعية الناس بالسنن الإلهية

إن هذا الكون محكوم بقوانين وسنن إلهية تنطبق على الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، وإن علينا أن نكون على وعي بتلك السنن ومنها سنة السببية وسنة التسخير، تسخير الكون وما فيه لخدمة الإنسان وتسهيل حياته وتأمينه على الأرض، والأخذ بالأسباب التي تحقق أفضل صور الأمان وحفظ الحياة والكرامة الإنسانية للناس، وإذا كنا لا نستطيع معرفة وقت ومكان وقوع الزلازل، فإننا نستطيع إذا أخذنا بالأسباب أن نقلل خطرها، وأن نقلل عدد قتلاها وجرحاها، بإصلاح البنية التحتية وبناء أبنية وبيوت مقاومة للزلزال، قرأت أن مقاولا تركيا اسمه المهندس أيدن دورسون نفذ أكثر من 1000 وحدة سكنية في فترة التسعينيات حتى سنة 2002 في أكثر من 50 مجمعا سكنيا في المناطق التركية التي ضربها الزلزال، وأنه لم يتضرر مبنى واحد منها رغم مرور 30 عاما على بنائها!

ماذا يعني هذا؟ وماذا يعني قبض السلطات التركية على عدد من المقاولين الأتراك الذين كانوا سببا بتجاوزاتهم في سقوط الأبنية جراء الزلزال وقتل المئات تحت أنقاضها سوى أن الأخذ بالأسباب يحمي الناس ويحفظ أرواحهم، وأن الجميع يجب أن يسأل ويحاسب حتى لا يتكرر الضرر ويتعاظم الخطر مع كل كارثة طبيعية تقع.

لقد أخذت أتأمل وأقارن أعداد القتلى والبنايات التي تهدمت نتيجة زلازل أخرى وقعت بدرجات ضعف زلزال تركيا وسوريا كتلك التي وقعت في اليابان وتشيلي وكان القتلى فيها بالمئات بينما كانوا في الزلزال الأخير وفي زلزال مصر بالآلاف، والسبب هو رعاية السنن والقوانين الإلهية هناك وتخلفها هنا.

إنني كلما رأيت طفلا صغيرا أو شيخا كبيرا يخرج حيا من تحت الأنقاض بعد 180 ساعة على الزلزال أحمد الله وأشكره على نجاته لكني أتألم وأتحسر على المئات الذين كان يمكن إنقاذهم لو أن فرق الإنقاذ كانت أكثر تدريبا وأسرع وجودا، والمستشفيات أكثر جاهزية وأقدر على التعامل مع الحدث مما هي عليه.

نحن نسلم لأمر الله ونؤمن بقضاء الله وقدره، وأن ما أصاب المسلم لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولكنا مأمورون مع ذلك بأن نأخذ بالأسباب الكاملة لحفظ الأنفس وصيانتها ومداواتها وعلاجها، وعلينا أن نخلق وعيا عاما بهذه السنن الإلهية لحمل الحكومات والأنظمة في البلدان المسلمة لأن تأخذ بالأسباب التي تحمي الناس وأن ترتقي بالبنى التحتية المتهالكة وأن تنفق عليها بدلا من الإنفاق على تأمين السلطة والسلطان والطبقة المترفة التي تعيش بمعزل عن الشعب والناس.

((من أولويات الدعاة استثمار الحدث دعويا في الأخذ بيد الناس إلى الله، وتعريفهم بحقيقة الدنيا من خلال المشاهد التي عاينوها، وعدم تسويف التوبة فإن الموت يأتي بغتة))

خامسا: استثمار الحدث دعويا

وأخيرا فمن أولويات الدعاة استثمار الحدث دعويا في الأخذ بيد الناس إلى الله، وتعريفهم بحقيقة الدنيا من خلال المشاهد التي عاينوها، وعدم تسويف التوبة فإن الموت يأتي بغتة، والاستعداد لزلزلة الساعة الكبرى، وإشاعة التراحم والتآخي بين الناس، ولعلي أفصل في كيفية استثمار حدث الزلزلة دعويا في مقال آخر بحول الله، والله تعالى أسأل أن يربط على قلوب أهالي الشهداء وأن يعجل بالشفاء للجرحى والمصابين، وأن يلهمنا السداد والرشاد في القول والعمل إنه سميع مجيب.

Related Articles

Check Also
Close
Back to top button