مقالاتمقالات الرأي

إضاءة على فصل اللائكية الفرنسية: مشكلة أم حل؟

من كتاب آراء جديدة في العلمانية والدين والديمقراطية …. تأليف رفيق عبد السلام

إضاءة: هشام الشلوي

المقدمة الأولى

جرّد رفيق عبد السلام في كتابه آراء جديدة في العلمانية والدين والديمقراطية، ادعاءً لطالما ردده الحداثيون العرب، ناقلين إياه من آباء وأبناء الحداثة في موطنها الأصلي، وهو ملازمة الديمقراطية للعلمانية وملاصقتها لليبرالية، جرده من حمولاته الفلسفية والثقافية والتاريخية، وأثبت نظريا وواقعيا أن ذلك ليس بلازم ولا ضروري ولا ناجح حتى في أغلب التجارب.
وضعت يدي على فصل اللائكية الفرنسية في الكتاب لمّا رأيت الالتباس الذي أحدثته كمفهوم قلق في ثقافتنا العربية بسبب تعمد إخفاء بعض جوانبها، التاريخية السياسية والفلسفية، أو تطبيقاتها الواقعية الواعية.
المنهج الرفيقي لا يستند فقط ولا يعول على الرد النظري، بل يحوم حول التطبيقات والتجارب سواء في الموطن الأم أو في الدول التي فُرضت عليها اللائكية فرضا من فرنسا ذاتها أو من أنظمة جمهورية عربية قاسية ومصادمة ظنت أنّ اللائكية حل ناجع للتوتر المجتمعي.

المقدمة الثانية

يرد رفيق عبد السلام في ثمانٍ وعشرين صفحة على دعوى كتاب وأيديولوجيين عرب بأن اللائكية الفرنسية هي الترياق السحري لآفة التعصب الديني، والمعبر اللازم لتأسيس ثقافة التسامح والسلم المدني على أنقاض الصراعات الدينية والطائفية التي تنخر الجسم الإسلامي.
من البداية لا يغض المؤلف الطرف عن مظاهر الاحتقان السياسي والديني من ظهور جماعات العنف التي تسوغ الاعتداء على الآخرين وإهدار دمهم بمسوغات دينية، لم تفرق بين المسلمين وغيرهم، وتفاقم الانقسامات الطائفية والعرقية في بلدان مثل العراق ولبنان وباكستان وغيرها.
ويرفض المؤلف الربط بين الحل اللائكي وضرورة جلب الاستقرار المدني والتعايش السلمي، مستعينا بتسليط الضوء على أبعاد ملازمة لللائكية الفرنسية عادة ما يتعمد تغييبها في أدبيات العلمانيين العرب وأقرانهم الفرنسيين تحت مزاعم أيديولوجية وادعاءات نظرية منبتة الصلة بالواقع وما يجري على الأرض.

المنابت والجذور النظرية

تتأسس اللائكية الفرنسية على نزعة تدخلية شديدة الوطأة انطلاقا من أن الدولة اللائكية ضامنة الوحدة الاجتماعية والسياسية وحارسة الهوية العامة، بحكم قدرتها الخارقة على تجاوز الانقسامات الاجتماعية والقيمية التي تنخر الجسم السياسي، وقدرة الدولة الفائقة على التعبير عن المصلحة العامة المتجاوزة للمصلحة الجزئية والعينية للأفراد والمجموعات.
الفكرة السابقة تأسست على تقليد من عهد مؤسسي التنوير يشدد على شفافية السياسي وقدرته على بلورة الإرادة الكلية والعامة والتعبير عن المصالح الجامعة التي تشمل جموع الأفراد والجماعات، والتعالي عن ظاهرة الانقسام السياسي والديني والطائفي والعرقي والطبقي.
تعود جذور فكرة شفافية السياسي إلى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 – 1679) الذي دافع عن فكرة السيادة الكلية والمطلقة للدولة – التنين، وهي عند هوبز شرط لازم لتجاوز حالة التحارب الداخلي أو ما أسماه هوبز بالحالة الذئبية للإنسان.
فمن وجهة نظر هوبز الإنسان مهيأ بطبعه الذاتي للفتك بغريمه، واستعمال كل أدوات الحيلة والمكر للاستحواذ على مقدرات السلطة والثروة، وبما أن الناس متساوون بالجبلة في قدراتهم العقلية التحايلية، فما من خيار للخروج من هذه الحالة الموحشة إلا تسليم الناس أسلحتهم وتخليهم عن أدوات القو ة وأسباب البطش بمحض إرادتهم الحرة والتعاقدية لمصلحة هيئة سياسية كلية. ثم على هؤلاء الناس أيضا الاعتراف بهذه الهيئة سلطة رادعة وقاهرة تحوم فوق رؤوس الجميع.
أما الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778) فقد عدّ الدولة بمثابة الإطار المعبر والمجسد للإرادة الكلية للمواطنين، وهي القوة الناظمة والمتعالية عن مجموع المصالح الفردية والجزئية، وينبه روسو على أن هذه الإرادة العامة ليست مجرد تجميع كمي لمجمل الإرادات العينية أو مجرد توليف بين المصالح الجزئية والمتضاربة، بل هي أشبه ما تكون بالقوة السحرية التي تتجاوز نطاق الجزئي والفردي لتشكل الكلي والعام المجرد.
الفيلسوف الألماني هيجل (1770 – 1831) أعاد إحياء هذه الفكرة مشددا على أولوية فكرة الدولة الكلية المجردة والجامعة للفضائل السياسية والأخلاقية، والقادرة على ضمان وحدة المجتمع المدني المنقسم على نفسه من جهة المصالح والتعبير.
وعلى الرغم من أن هيجل يؤكد في مواضع مختلفة من أعماله على أن الدولة الحديثة لا تلغي قيمة الحرية الذاتية للأفراد، إلا أنه ينتهي إلى إعطاء الأولوية القصوى لكل ما هو كلي وشمولي على من هو عيني وجزئي، أي تغليب منطق الدولة على الذاتية الحرة.

نشأة الدولة الشمولية

وفرت فكرة الكلي الجامع والناظم التي تعبر عنها الدولة وفق أدبيات رجل الثورة الفرنسية والفلاسفة الألمان أرضية خصبة لنشأة الدولة الشمولية والتدخلية على نحو ما بدأ الفرنسيون في إقامة دعائمها ووضع أركانها بعد ثورتهم الصاخبة، ومن ثم نقل هذه الأفكار من بطون الكتب وتنظيرات الفلاسفة إلى حالة الاختبار التاريخي العملي، فكانت فرنسا الحقل التجريبي والتاريخي للمدونات الفكرية والحقوقية المجردة.
وتعلق الفرنسيين الشديد بالدولة لم يكن نتاج اعتبارات فكرية أو نظرية محضة بقدر ما كان موجها بمشكلات عملية وحاجات حيوية فرضتها سياقات التجربة الفرنسية نفسها.

التجربة الفرنسية

تميزت التجربة الفرنسية في خطها العام، بما في ذلك زمن الملكية، بوجود دولة متدخلة وقوية متساندة مع سلطة كنيسة شديدة الضبط وبالغة القهر.
ومع تراجع دور الكنيسة امتصت الدولة الجمهورية المعلمنة أغلب الخصائص الهيكلية والبنيوية التي كانت ملكا لمؤسسة الكثلكة، كالميل القوي نحو فرض الوحدة الاجتماعية والسياسية بسلطان القهر والخوف وغرس التجانس اللغوي والثقافي بقوة الإكراه المخفف والعنف المغلظ، بعدما كان يفرض ذلك تحت غطاء وحدة الدين والكنيسة، وخلف شعارات مقاومة الهرطقات الدينية.
وبسبب الانقسامات السياسية والدينية والاستقطاب الأيديولوجي التي كانت تطحن المجتمع الفرنسي قبل الثورة وبعدها، فقد أضحت الحاجة ماسة إلى الدولة الجمهورية اللائكية أكثر من أي وقت مضى لاستعادة الوحدة السياسية والاجتماعية المفقودة، وإعادة رأب الصدوع التي عمقها الحدث الانفجاري للثورة الفرنسية.
ولم تعد الجمهورية الفرنسية معنية بفرض الكثلكة على المجتمع مثلما كانت تفعل الكنيسة الكاثوليكية، إلا أنها لم تتخل عن مسعاها في فرض وحدة الثقافة والرؤية العامة ومسالك الحياة على المجتمع، لتلغي بموجبها كل الخصوصيات، بهدف السيطرة على انقسام الجسم السياسي والاجتماعي الذي تحول إلى ما يشبه الخنادق المتقاتلة، مثل الانقسام الديني العنيف الذي اشتعل أواره في القرن السادس عشر في الشمال الفرنسي بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث حاولت الكنيسة الكاثوليكية اقتلاع الطائفة البروتستانتية من جذروها رغبة في العودة إلى ما قبل مرحلة الانقسام الديني.
قوى هذا الشرخ الديني الاجتماعي الحاجة إلى الدولة المدنية أكثر من أي وقت مضى باعتبارها ضامنة للسلم المدني وتقف فوق الكنيسة والطوائف الدينية.
زد على ذلك الصراع المرير بين الجمهوريين والملكيين وبين اللائكيين والكنسيين في القرن الثامن عشر، وهو صراع لم تنطفئ ناره إلا بعد أكثر من مئة سنة من عمر الثورة الفرنسية.

وجهات علاج مغايرة

يرى المؤلف أن الحل التدخلي الفرنسي لم يكن بالضرورة هو الحل الوحيد الممكن لمعضلة الانقسام الديني والطائفي أو لمشكلة التنوع العرقي واللغوي، فقد عانت دول الجوار الأوروبي الشمالي مشكلات مشابهة، ولكنها اختارت وجهة مغايرة في العلاج.
لم تخل التجربة البريطانية من وجوه الحيف بحق قومياتها وطوائفها المتعددة لمصلحة الجنوب الإنجليزي البروتستانتي المهيمن، إلا أنها نحت منحا توليفيا يختلف عن تجربة الجار الفرنسي، مثل الاعتراف بتعددية الأعراق والأديان المكونة للبلد.
وفي سويسرا متعددة اللغات والطوائف، اعترف نظامها بهذا التعدد وحماه بنصوص القانون. والولايات المتحدة سمحت بقدر غير قليل من فضاءات التعبير الحر للخصوصيات الدينية والثقافية دون أن يثير ذلك جلبة أو ضجيج.

الدولة عند اللائكيين

كما أن الدولة عند اللائكيين الفرنسيين ليست مجرد أداة لتنظيم الشأن العام، ولا هي مجرد مؤسسة وظيفية لإدارة حياة الناس وتصريف أحوالهم ومعاشهم، بل هي صوت الأمة وروح الشعب وموضع حلول العدالة الكاملة والخير الأعظم، وهذا ما يعطيها مشروعية التدخل على النحو الذي تريد لفرض قيمها وتصوراتها الخاصة على الأفراد والجماعات، بحيث تتطابق مصالح المجتمع مع مصالح الدولة، وتنصهر إرادات الأفراد في إرادة الدولة. ويستند الفكر الفرنسي في ذلك إلى فرضية خيرية الدولة وشفافيتها. وبالتالي يتوافق الدور التدخلي الإكراهي للدولة الفرنسية على نحو ما تجسد في تجربتها التاريخية مع نظرية سياسية متمركزة حول الدولة في جماع مقولة الدولة العادلة والخيرية.
فتحت الثورة الفرنسية الباب أمام ظهور أنماط استبدادية جديدة غير مسبوقة حاملة بذور الاستبداد الحديث على نحور ما سيبرز لاحقا في الأنظمة الفاشية والنازية والشيوعية وغيرها. حيث يجمع كل هذه الأنماط التسلطية تعلقها المفرط بالدولة والعمل على تغيير شروط الوجود الإنساني بصورة حالمة عن طريق تدخل الفعل السياسي المبرمج والمخطط الذي تحتل فيه الدولة موقع الصدارة والتوجيه.
وليست الثورات الحديثة بدءا من الفرنسية ومرورا بالبلشفية والماوية إلا تكثيفا لهذه الرؤية السياسية الإرادية والحالمة بقلب الأوضاع القائمة رأسا على عقب لاقتلاع آفة الشر السياسي والاجتماعي من منابتها.
غيّب المفكرون الغربيون المحدثون من خلال تشديدهم على قدرة الإنسان على تغيير مجرى العالم ومسار التاريخ، الحدود الفاصلة بين الممكن الفعلي والممكن الخيالي، حتى أصبح كل شيء قابلا للانقلاب والتغيير الجذري بصورة تفوق إمكانيات البشر وسنن الاجتماع، وإعادة تصويب التاريخ من خلال الدولة الطلائعية وحركة كتل الجماهير.

التجربة الأمريكية

وما سبق يفسر التعلق المطلق للفرنسيين بالقوة الخارقة للدولة بوصفها العصا السحرية القادرة على إحداث التحولات الاجتماعية والسياسية وتفكيك عرى النظام القديم، وهو ما يفسر في الوقت نفسه ما مُنوا به من إخفاق فيما نجح فيه الأمريكيون.
فبينما عمل الفرنسيون على وضع السلطة واسمها الأكثر كثافة الدولة فوق المجتمع، باعتبارها الضامن الأكبر لقيمة الحرية، فإن الأمريكيين حافظوا على درجة عالية من التحوط والتوجس من الدولة، بوصفها مهددا أكبر لقيمة الحرية نفسها، ووضعوا أكبر قدر ممكن من الكوابح السياسية والتشريعية أمامها، مستفيدين من فكرة مونتسكيو عن توزيع السلطات والحد من تمددها أكثر من أقرانهم الفرنسيين، وتوزيع أدوات السلطة على أكبر قدر ممكن من القوى والهيئات، كما يظهر في ضمان الدستور الأمريكي حق المواطن في حمل السلاح، وسعيهم الدؤوب إلى تحويل مركز الثقل من الدولة المركزية إلى الوحدات الصغرى للمجتمع المدني.
والمؤلف متفطن للمعادلة السياسية التي صنعتها الثورة الأمريكية التي كانت محكومة بالروح الوفاقية والبراجماتية الأمريكية، ويفصل تلك المعادلة عن واقع النظام الديمقراطي الأمريكي اليوم الذي تحول إلى واجهة للتعبير عن مصالح اللوبيات ومراكز الضغط النافذ والجماعات المهودة التي لا صلة لها بالإرادة العامة للمجتمع الأمريكي.
وبشيء من المقارنة يمكن القول إن الفكر السياسي الفرنسي قد حوّل تعديل مجرى الحلول المسيحي مع المحافظة على مرتكزاته البنيوية؛ فإذا كان الكلام المسيحي يرى في الكنيسة تعبيرا عن جسد المسيح وموضع حلول العناية الربانية، فإن وارثه المعلمن صار يرى في الدولة موضع الحلول الباطني للإرادة الكلية والعامة ومجال تجسيد السيادة المطلقة.

رهان اللائكية الفرنسية

تراهن اللائكية الفرنسية على إخلاء المجال العام من سيطرة الدين ثم ملئه بعد ذلك بالقيم الثقافية الدهرية. وهي تتخذ المدرسة والمؤسسات التعليمية كأهم أذرعها في إشاعة ما تبشر به من تصورات دهرية. فالمدرسة عند اللائكيين الفرنسيين ليست مجرد فضاء للتعليم وصقل مواهب الطفل وتهذيب حسه المدني، بقدر ما هي الحقل المثالي لإعادة صنع طبيعة ثانية لدى الطفل تحل محل الأولى المنحدرة من المحيط الاجتماعي والأسري، ويراهن اللائكيون على تغيير بنية المجتمع من خلال أدوات الدولة.
فالمؤسسة التعليمية لدى اللائكيين تحتل موقعا طلائعيا في مقارعة التصورات الدينية، وحرصت إصلاحات التعليم اللائكية أواخر القرن التاسع عشر على استبدال ما أسمته بالتكوين الأخلاقي المدني وبناء نظام مدرسة من دون إله.
ومما ورد في توجيهات وزارة التعليم الفرنسية وقتئذ في إطار قانون التعليم الصادر يوم 28 مارس سنة 1882 “يجب ألا نذكر للطفل البالغ من العمر سبع سنوات شيئا عن الله، ليشعر هذا الطفل من تلقاء نفسه، على امتداد الساعات الست التي يتلقاها يوميا، أن الله غير موجود أصلا، أو أننا في أحسن الأحوال لم نعد بحاجة إليه”
ويراد من هذا صنع مبشرين جدد قائمين على نشر القيم اللائكية الصلبة في فرنسا وتصديرها إلى مختلف ربوع العالم، تماما كما كانت الكنيسة الكاثوليكية قائمة على تخريج المبشرين بالتعاليم المسيحية ومصدرين لها.

أذرع اللائكية

الأول: آلية الرقابة والضبط العقابي للدولة الجمهورية اللائكية الحارسة لقيم الجمهورية اللائكية والضابطة لدائرة المحظور والمباح، سواء في مجال الحياة العامة أو في مجال الاختيارات الخاصة.
الثاني: أدوات التوجيه الثقافي والأيديولوجي التي تعاد بمقتضاها صياغة الشخصية الفردية وشحن الفضاء العام بالقيم الدهرية المعلمنة، وعلى رأس هذه المؤسسات المدرسة، ولعل هذا ما يفسر ما يثيره الفرنسيون حول دور المدرسة والتعليم من ضجيج وسجال لا نظير له لدى أي من الأمم الأخرى في العالم.
ويؤكد هذا أن اللائكية الفرنسية لا تكتفي بتحرير السياسي من سيطرة الكنائس، بقدر ما ترهن على مقارعة الأديان عموما وطردها من الفضاء العام لتحل محلها القيم اللائكية الصلبة.
وهذا ما يسمح بالقول إن اللائكية الفرنسية لم تكن مجرد تسوية سياسية لمعضلة التنازع بين الكنيسة والدولة أو بين الديني والسياسي، وإنما عقيدة صارمة ومنظومة إكراهية مغلقة شبيهة بالعقائد الشمولية تتوافر لديها كل مميزات الدين، من يقينيات وتقديس وطقوس وتعلق بالغايات القصوى والآمال البعيدة، وإن كان ذلك مسكوبا في قالب وضعي دنيوي.
إن ما يطبع هذه اللائكية من نزعة شمولية وثوقية، وجنوح باتجاه الطابع الإقصائي والاستبعادي، ليس إلا انعكاسا لما اتسمت به الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية من طابع وثوقي استبعادي، فكما أن عقيدة الكثلكة كانت ترسم حدودا فاصلة بين أتباع الصليب الخلص، وأتباع الغواية والشيطان من الوثنيين والكفرة، فإن اللائكية اليوم لا تترد في إقامة جدر سميكة بين اللائكيين الخلص وبين خصومهم الموصوفين بالغيبيين واللاعقلانيين. فخصوم لائكية اليوم ليسوا إلا هراطقة الأمس، ومحرمات جمهورية اليوم ليست إلا محرمات البابوية الكاثوليكية للأمس البعيد – القريب وإن اكتست بطابع دهري دنيوي.
واللائكية الفرنسية تتأسس على رؤية صارمة للحقيقة وللنظام الاجتماعي السياسي، ولعل هذا ما أوهن قدرتها على الانفتاح وقبول المغاير في الثقافة والفكر، وهو ما يفسر عجز القيم اللائكية والجمهورية عن استيعاب حالة التعدد الثقافي والديني التي تطبع المجتمعات الغربية اليوم، فضلا عن طابعها الإقصائي والاستبعادي على الرغم من ادعاءاتها في الانفتاح والتسامح.

وشاية التاريخ

شكّل مبدأ اللائكية الثقافة الفرنسية على نزعات جذرية مدمرة لا تعرف معاني التوسط والوفاق، ويبرز ذلك جليا بعد صعود اليعاقبة وتحويلهم الساحة السياسية والثقافية الفرنسية إلى ساحة حرب مفتوحة في إطار ما سمي حينئذ بسنوات الرعب، أو ما أسماه روبسبيير بإرهاب الحرية.

وحالة الرعب هنا لا تعني مجرد حقبة من حقب الثورة الفرنسية – تلك التي تمتد بين مجازر سبتمبر سنة 1792 حتى سقوط روبسبيير في يوليو سنة 1794 – ولكنها نمط متكامل في إدارة الحكم وفي تصور سياسي لازم الثورة من ولادتها واستمر معها عقودا متتالية من الزمن، ومازال يحكمها إلى اليوم، ذلك النمط من الحكم الذي يستدعي القوة والحسم الجذري في التعاطي مع السياسة وقضايا الاجتماع باسم ادعاءات حداثية تنويرية، وهو إرهاب يراوح بين استخدام مؤسسات الدولة وأجهزتها للعنف المنظم استخداما فجا وصريحا، وبين العنف الصامت الذي يقوم على سن التشريعات القانونية الصارمة.
والإرهاب لحظة أساسية ومكينة في تاريخ الثورة الفرنسية، فهو لم يكن قط مجرد حدث عرضي، أو تشوه مؤقت طرأ عليها، مما قد يحلو لبعضهم أن يدعي. ويبدو وكأن تاريخ الثورة الفرنسية حلقات مترابطة وأطوار متلاحقة من العنف والإرهاب، حيث يؤدي الواحد منها إلى الآخر. ولذلك لم يكن غريبا أن يقترن تاريخ الثورات عموما بمقادير غير قليلة من الإرهاب والعنف، اللذين لم تسلم منهما حتى الثورة الإيرانية على الرغم من مظاهرها التقليدية الهادئة.
لماذا تنصرف الأنظار عن إرهاب الثورة الفرنسية؟
يرجع السبب في انصراف الأنظار عن إرهاب الثورة الفرنسية إلى ما رشح عن هذه الثورة من شعارات تحريرية ومدونات حقوقية غطت ما انطوت عليه من أبعاد مرعبة، وشغلت الناس بمبشراتها الليبرالية عن رؤية وجوها التسلطية ، وقد ساعد على ذلك ظهور الثورات الشيوعية التي اتسمت بالعنف الصارخ والإرهاب وحكمت الشعوب بالحديد والنار، وهكذا توارت بشاعات الثورة الفرنسية خلف الشناعات الستالينية، وحلت مشاهد ديكتاتورية البروليتاريا محل العنف العبثي للفرنسيين سواء في مجال الدراسات التاريخية أم في حقل الأبحاث الاجتماعية والسياسية.
فالثورة الفرنسية فتحت المجال أمام ظهور أنماط استبدادية جديدة بالغة الخطورة، تؤسس نفسها على ادعاء تمثيل الشعب والأمة وعلى حماية قيم الحرية. ولسوء حظ العرب أن أخذت الكثير من دولهم بالنموذج اللائكي الفرنسي مما زادها تسلطا فوق تسلطها وعنفا إلى عنفها.
لقد كانت الثورة الفرنسية وإلى يومنا هذا مسكونة بضرب من التوتر الداخلي بين ثقافة سياسية ليبرالية تقوم على مطالب الحرية وإعلان حقوق الإنسان من جهة، ولكنها من الجهة الأخرى لا تتورع عن استخدام العنف السياسي والقانوني، وكل ألوان القهر تحت دعاوى الحرية والمساواة. وبالتالي لا يمكن قراءة تاريخ الثورة الفرنسية ودولتها الجمهورية إلا بالتوقف عند هذين الوجهين المتشابكين.
وليس الإكراه المنظم الذي يمارس اليوم على الأقليات الدينية والعرقية إلا غيضا من فيض اللائكية الجمهورية.

إدموند بارك (1729 – 1797)
توقع الفيلسوف الإنجليزي إدموند بارك المحافظ، للفرنسيين قبل أن تستوي الثورة الفرنسية على صورتها رحلة طويلة وشاقة في عالم الفوضى وحالكة الظلمة، وذلك بحكم ما لازم الحالة الفرنسية من تعلق بالمجردات والمطالب المثالية على حساب الخبرة السياسية الحية، ومن مظاهر ذلك اندفاع هذه الثورة نحو أهداف سياسية حالمة لا صلة لها بالواقع والممكنات التاريخية، من مثل العمل على صنع مجتمع جديد لا يمت للماضي بصلة ولا يربطه بالتاريخ سبب، والسعي إلى بناء مفهوم مطلق ومجرد للمواطنة لا علاقة له بالواقع، فضلا عن ميل أهلها إلى الحلول الجذرية والقصوى، بدل البحث عن الحلول الوفاقية الوسطى.

استثناء توكفيل

افترض الفرنسيون الترابط الحتمي بين دور الدولة وقيمة الحرية، إذ يكفي أن تكون الجمهورية لائكية، لكي تكون الحرية بخير وعافية.
ويمثل المفكر الفرنسي الأمريكي ألكسيس توكفيل (1805 – 1859) استثناء من السياق العام للفكر الفرنسي، إذ سبق وأن نبه منذ وقت مبكر إلى أن تعلق المواطنين بالتحرر السياسي من قيود الإكراه والعبودية لا يلتقي بالضرورة مع مبدأ الخضوع لدولة مركزية على نحو ما تبرز ذلك التجربة الفرنسية، وأن أكثر أنواع الاستبداد الجديد والناعم يتسرب عبر نافذة الدولة الراعية التي تسعى لمد مخالبها الحادة إلى مختلف مناحي الجسم الاجتماعي، وصولا إلى إهدار قيم الحرية باسم حماية قيم الحرية وتجذير مبدأ المساواة وإلغاء حالة التمييز التي طبعت الحقب السابقة.

أبعاد تسلطية

تكشف التجربة الفرنسية في موطنها الأصلي أو ما امتد إليه نفوذها الاستعماري من بلدان عن أبعادها التسلطية المخيفة، من مظاهر ذلك التشديد على الدور الطلائعي للدولة في إحداث التحولات السياسية والاجتماعية، وفي هندسة البنية السياسية الاجتماعية بصورة فوقية ومتعالية عن مشاغل الناس وحاجاتهم.
ومما يزيد من مخاطر الأنموذج الفرنسي ويشحذ أنيابه أن تستحوذ على هذه الدولة نخبة لائكية صلبة معزولة عن محيطها الاجتماعي ومقطوعة الصلة عن تصورات الناس ومصالحهم، على نحو ما نراه واقعا في كثير من البلاد العربية التي خضعت لتجربة الاحتلال الفرنسي، وخصوصا في بلاد المغرب العربي، حيث تحولت هذه الدولة إلى ما يشبه آلة حرب دائمة ومفتوحة في مواجهة مجتمع موصوف بالجمود والتخلف، بدل أن تكون خادمة له ومعبرة عن مصالحه. ولم يكن من الصدفة أن تكون أكثر أنظمة الحكم العربي تخلفا وغلظة في التعامل مع شعوبها تلك التي ورثت التقاليد الجمهورية الفرنسية.
إن كل ما فعلته الثورة الفرنسية لا يزيد عن تعميق الأبعاد التسلطية المختزنة في التاريخ السياسي الفرنسي ودفعه إلى نهاياته القصوى. فالفرنسيون حاولوا رأب صدع ما خلفته الحروب الدينية للقرن السادس عشر من تصدعات عبر إقامة ملكية مطلقة ومركزية غير مسبوقة، في حين حاول أقرانهم الإنجليز تجاوز مخلفات الحروب الدينية وثورتي 1640 و1688 عبر توسيع سلطة البرلمان والمؤسسات الوسيطة مع التخفيف من وطأة الملكية. ففي الوقت الذي ألغى فيه لويس الرابع عشر اتفاقية نانت سنة 1685 (الاتفاقية التي تم بموجبها الاعتراف بحقوق البروتستانت) صدّق البرلمان الإنجليزي بعد أربع سنوات فقط على مرسوم التسامح الديني.

ثورة صاخبة

الثابت في كل ذلك أن التجربة الفرنسية التي كانت منتج ثورة صاخبة وإرثا كنسيا كاثوليكيا ثقيلا، تمثل الاستثناء وليس القاعدة. بل إن النموذج اللائكي الفرنسي وُلد مأزوما ومتوترا منذ البداية، بسبب ما لازم هذه الثورة من وهم البداية الجذرية الذي يخيل لأصحاب الثورات أن بمقدورهم تغيير وجه العالم وإعادة بناء طبيعة إنسانية جديدة، وأنهم خلف بلا سلف وأبناء بلا آباء.
وكانت الكاتبة الألمانية حنة أرندت محقة حينما بينت في معرض مقارنتها بين الثورات الحديثة أن سر نجاح الثورة الأمريكية في إقامة حياة مدنية مستقرة إنما يعود إلى تخلص الآباء المؤسسين للثورة الأمريكية من فكرة القطيعة الجذرية والبداية من الصفر. بينما نظر الفرنسيون إلى الثورة باعتبارها تمزقا مطلقا في نسيج الزمن، وراهنوا على إقامة نظام اجتماعي من الصفر على أنقاض النظام القديم، وحوّلوا عالم السياسية من مجال إدارة الممكن إلى حقل تجريبي خيالي للتطلعات والأحلام لا علاقة له بالواقع وممكناته.

ضغوط على اللائكية الفرنسية

أولها: التقليد الأنجلوسكسوني الذي بدأ يلقي بظلاله على رجال الفكر والسياسة الفرنسيين، من جهة التيار الليبرالي الذي يشدد على حيادية الدولة في مجال الثقافة، معتبرا إياها مجرد حَكَم لا يحق له التدخل في مجال القيم وأنماط الحياة التي تخص الأفراد والجماعات.
ورغم أن مقولة الحياد التي يتحدث عنها الفلاسفة والمفكرون الليبراليون لا تعكس بالضرورة واقع النظام الليبرالي العلماني، إذ رغم ما تدعيه تلك العلمانيات من التزام الحياد، إلا أنها في الغالب تراهن على إعادة صياغة الشخصية الفردية والجماعية على هدي مخططاتها التوجيهية.
لكن ما يميز اللائكية الفرنسية قياسا ببقية العلمانيات الأوروبية والأمريكية أنها في الغالب لا تعترف أصلا بمقولة الحياد، ولا تقيم وزنا للتمايز بين الفضاء الخاص والعام، ومن ثم لا يجد اللائكيون غضاضة في تدخل الدولة في أخص خواص حياة الإنسان، بما في ذلك نوعية الذوق والملبس الذي يختاره.
كما أن اللائكية الفرنسية تبدو شديدة الحساسية من ظاهرة الاختلاف أو التمايز الثقافي أو الديني، مما يجعل النظام اللائكي أشبه ما يكون بالنماذج الشمولية التي طغت على العصر الحديث، من جهة تعلقها المفرط بمطلب التجانس العام، وتبرمها من التنوع الثقافي واللغوي والديني. ولعل هذا ما يفسر الصخب الشديد الذي يثيره الفرنسيون حول مقولة الاندماج، ولا سيما إذا تعلق الأمر بأقليتهم الإسلامية التي يرون أنها شديدة التمنع في تقبل نمط الحياة والتفكير الفرنسيين، ومن ثم يعدونها تهديدا لأسس النظام الجمهوري اللائكي.
ثاني التيارات الضاغطة على اللائكية هو ما يسمى بالمدرسة الجماعتية التي تدافع عن حماية الخصوصيات الثقافية للمجموعات الثقافية والعرقية التي ينصهر داخلها الفرد، مع كف يد الدولة عن فرض نمطية ثقافية موحدة.
تزامن هذا الضغط الفكري مع ضغط واقعي متأت من حالة التعدد الثقافي والديني الذي فرض نفسه على فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب حركة الهجرة التي جلبت معها تعددا في أنماط العيش ومسالك التفكير والاعتقاد.

Related Articles

Back to top button