د.شيروان الشميراني
هذا المقال يأتي بمناسبة الذكرى السادسة والخمسين لإستشهاد المفكر العملاق سيد قطب الذي يوافق 29 آب 1966، يتحدث عن رؤية الإسلام للسلام، يعتمد على كتابه ” السلام العالمي والإسلام” في طبعة سبتمبر – أيلول –1966بعد أيام فقط من مغادرته هذه الدنيا الفانية شهيداً مظلوماً كما يقول العلامة المرحوم يوسف القرضاوي، واختيار هذا الكتاب أو فكرة السلام لم يكن مصادفة وإنما لما يجري في العالم ومنطقتنا في الشرق الأوسط من حرب شعواء أعمى على غزة، حرب تجاوزت كل الخطوط الحمراء التي رسمتها الأديان السماوية ومواثيق خطّها العقل البشري وأفرزها بعد حروب عالمية مدمرة عاشتها البشرية في القرن العشرين. كما لمعرفة رؤية سيد قطب الإسلامية عن السلام أهميتها لما شاع عنه من ميله الى المواجهة الدائمة، وقد يعطي هذه الأسطر القليلة جواباً لأسئلة استقرّت في الأذهان حول منهجعملاق الفكرِ الإسلامي كما وصفه عبدالله عزّام.
الكتاب من أوله إلى آخره مفيد، لا يوجد فيه ما يمكن الاستغناء عنه، او النظر إليه على أنه زائد عن المطلوب، كتاب مرَكّز، لهذا نحاول في هذه الأسطر المحسوبة كلماتها تحديد الأسس الرئيسة التي يقوم عليها مفهوم السلام كما تشرحه فصول الكتاب الخمسة “ العقيدة والحياة، سلام الضمير، سلام البيت، سلام المجتمع، سلام العالم“، وهي: –
1- إنّ السّلام في الاسلام يقوم على رؤيته الكلية لله والكون والحياة والإنسان، يتصل إتصالاً وثيقاً بطبيعة هذه الرؤية وفكرتها، هذه الفكرة الكلية من منظور سيد قطب ترجع اليها نظم الإسلام جميعاً وتلتقي عندها تشريعاته وتوجيهاته، وتجتمع عندها شعائره وشرائعه، ” وطبيعة السلام في الإسلام على وجه خاص لا غنى لها عن الالمام بنظرة الإسلام الكلية تلك، فمنها تنبع نبعاً مباشراً، وإليها ترجع رجوعاً مباشراً”، ومن عادة سيد– رحمه الله- أن يكتب موجزاً لهذا التصور الإسلامي الكلي في بدايات بحوثه ثم يربط ماهو بصدد البحث فيه بالك النظرة الكلية، لكنه خصّص لها كتاباً من جزءاين بعنوان ” خصائص التصور الإسلامي” و”مقومات التصور الإسلامي”.
2- إن السلام هو الأصل والقاعدة والحرب ضرورة وإستثناء، لأنه فكرة أصيلة عميقة في الإسلام، وعليه حرّم الإسلام الحروب التي تندلع الآن تقريباً على مستوى العالم كله، فهي حروب تناقض الغاية الإنسانية في الحياة،“ الإسلام يستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع: حروب الاستعمار والاستغلال والبحث عن الأسواق والخامات، واسترقاق المرافق والرجال…كما يستبعد الحروب التي يثيرها حب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، أو حب المغانم الشخصية والأسلاب“، والإسلام ينظر الى البشرية وحدة واحدة متعاونة يأمرهم الله بالتعاون على البر والتقوى، وفي الوجه المكمل لإستبعاد الحروب يوجه الإسلام بالسماحة ويؤسس لها، وتقبل الآخرين والإحسان إليهم، في هذا الباب يضرب المؤلف نماذج تاريخية عديدة للإستدلال على هذا المبدأ الإنساني، مع التشديد على أن كلّ فعل خارج عنه لا يمثل الحقيقة الدينية يمثل إنحرافاً عن حقيقة الدعوة الإسلامية. وروح السماحة تمكن الإسلام من إقرار السلام في الأرض، “وهي سماحة مبذولة للمجموعة البشرية كلها لا لجنس فيها ولا لأتباع عقيدة معينة، انما هي للإنسان بوصفه إنسانا”.
3- إن السلام في الإسلام شامل لكل مجالات الحياة، وليس المجال الدولي أو داخل الدولة الواحدة الذي كلما يذكر السلام يتبادر الذهن الى الحرب بين المختلفين من الجماعات والطوائف والدول المتقاتلة، لكن سيد– رحمه الله – بفهمه الشمولي الكلي للدين والحياة، يوسع من دائرة السلام ليشمل مجمل الحياة الفردية والاجتماعية، عنده يبدأ من الضمير الإنساني، ثم البيت و المجتمع، ثم المرحلة النهائية وهي السلام العالمي، “وحين يحاول الإسلام إقرار السلام الشامل وفق مبادئه العليا في تحقيق كلمة الله، لا يبدأ في مجال السلام الدولي، فتلك نهاية المرحلة لا بدايتها، وما السلام الدولي إلا الحلقة الأخيرة التي تسبقها حلقات”. وهذه من طبيعة الإسلام الذي لا يجزيء الحياة وبالتالي لا يجزيء السلام، لا ينشده في حقل مفرد من تلك الحقول.
تحدث – رحمه الله – كثيراً عن سلام البيت، وربما يكون من الأهمية لفت النظر الى هذه النقطة، السلام داخل البيت، والذي يصطلح عليها بإستقرار الأسرة في مواجهة التفكيك الذي تتعرض له من الهجمةالثقافية الغربية، الغرب الذي انهارت فيه الاسرة، وانعدم فيها السلام،يقول: “والفرد الذي لا يستمتع في بيته بالسلام لن يعرف للسلام قيمة، ولن يتذوق له طعماً، ولن يكون عامل سلام وفي أعصابه معركة وفي نفسه قلق وفي روحه اضطراب”.
4- إن البداية تكون من الضمير الإنساني، كما هو منهج الإسلام الذي يبدأ العمل التغييري من الإنسان، لأنه مركز الحياة وبانيها ومحركها على الأرض، “لا سلام لعالم ضمير الفرد فيه لا يستمتع بالسلام، تلك هي نظرة الإسلام.. فإذا شاء أن يقيم السلام العالمي على أساس ركين، فهو يبدؤه هنالك في قرارة ضميره…وفي ضمير الفرد يغرس الإسلام بذرة السلام، السلام الإيجابي الذي يرفع الحياة ويرقيها، لا السلام السلبي الذي يرضى بكل شيء“. أي لا يمكن لمن يرضى بالذلّ والهوان وينحني للظالم إدعاء إنه فعل ذلك لأنه يريد السلام، في نظر سيد قطب هذا سلامٌرخيص. وهنا يرى سيد قطب ان الحرب المشروعة في الاسلام هي التي تكون دفاعاً عن المظلوم وعن حرية اختيار الدين والعقيدة. لا لفرض الإسلام.
ومن عناوين سلام الضمير، التناسق والتوافق بين المنطق الإنساني والعقيدة الدينية على عكس الأديان التي حولت العقيدة الواضحة إلى ألغاز وطلاسم تتعب العقل، وكذلك التناسق بين الرغبات والأشواق، وبين التكليف والطاقة واعتماد اليسر والإعتدال، والإطمئنان الى الله في مواجهة شدائد الحياة، وتشريع كل الذي يثبت الضمان للتكليفات الدينية، بمعنى عدم الإكتفاء بالجوانب العقلية والروحية والسلوكية، وإنما تشريع المباديء التي تترجم قناعات الضمير الى واقع عملي وتحميها.
إنّ كتاب” السلام العالمي والإسلام” لم يأت به سيد قطب لمجرد الكتابةومستلزمات الترقية العلمية الجامعية، أو لأنه كاتب يوضح ويعرض الفهم الإسلامي للحياة على الإنسانية، ومن دون نفي هذه الأخيرة، إلاّ أنه كتب من أجل مواجهة احداث الحياة العصرية ومشاكلها، وطرح الحلّ أو الرأي الإسلامي تجاه تلك الأحداث، وتلك هي المهمة الأساسية للوحي الإلهي وعليه يكون كذلك لكل من يتبنى تبليغ هذا الدين في حياته، منها مسألة “العدالة الاجتماعية في الإسلام” التي سبق عنها كتاباً، وماهو محلّ حديثنا وهو فكرة السلام في الإسلام، ومن رسوخ وأصالة فكره واستلهامه المباشر من القرآنيأتي الكتاب كأنه كتبه الآن رغم مرور ثلاثة وسبعين عاماً على نشره. وربما مشاكل العالم البشري لم تطرأ عليها تغييرات نوعية، ونحن مازلنا نعيش آثار الحرب العالمية الثانية، لهذا تنظر العين الى صفحاته كأنه إصدار حديث.