عاممقالاتمقالات الرأي

التطبيع كاختراقٍ بنيوي: قراءةٌ في الأمن القومي والهوية

الدكتور: علي جمعة العبيدي

رئيس مؤسسة شمال أفريقيا

للدراسات السياسية والاستراتيجية

 الملخص

  تبحث هذه الدراسة في مفهوم التطبيع كظاهرة سياسية واستراتيجية تتجاوز بعدها الدبلوماسي التقليدي لتتحول إلى آلية اختراق بنيوي تستهدف تفكيك البنى الثقافية والسياسية والاجتماعية للأمة العربية. وتؤكد أن التطبيع لم يعد مجرد تسوية سياسية أو خطوة نحو السلام، بل عملية مركّبة لإعادة إنتاج موازين القوى في المنطقة عبر الاقتصاد والثقافة والإعلام.

   من خلال تحليل المفهوم في أبعاده الفكرية والتاريخية والسياسية والثقافية، تخلص الدراسة إلى أن التطبيع يمثل مشروعاً لإعادة صياغة النظام الإقليمي العربي على نحو يخدم الهيمنة الصهيونية، ويُعيد تشكيل الوعي الجمعي وفق مقاييس “الشرق الأوسط الجديد”. كما تقدّم رؤية لمواجهة هذا الاختراق بالاستناد إلى أدوات الوعي والمقاومة الثقافية والسياسية والاقتصادية.

 الكلمات المفتاحية: التطبيع، الأمن القومي العربي، الهوية، الصراع العربي–الإسرائيلي، اتفاقيات أبراهام.

 الإطار النظري والمنهجي

  تعتمد الدراسة مقاربة تحليلية–تركيبية تنطلق من التداخل بين الواقعية السياسية والبنائية الاجتماعية في العلاقات الدولية. فالواقعية تفسّر التطبيع بوصفه نتيجة لاختلال موازين القوى، بينما تفسّره البنائية كعملية لإعادة تشكيل المعاني والهويات.

   منهجياً، تعتمد الدراسة تحليل السياسات وتحليل الخطاب عبر استقراء التحولات التي شهدتها المنطقة العربية منذ معاهدة كامب ديفيد حتى اتفاقيات أبراهام، مع التركيز على أثر هذه التحولات في بنية الأمن القومي العربي والهوية الثقافية. وبهذا تتناول الدراسة التطبيع بوصفه ظاهرة تتقاطع فيها القوة المادية مع القوة الرمزية، والسياسة مع الثقافة، والهيمنة مع إعادة إنتاج الوعي.

 الماهية المفهومية للتطبيع

 يعني التطبيع تحويل ما هو استثنائي أو متوتر إلى وضع طبيعي، أي الانتقال من القطيعة إلى التواصل ومن الصراع إلى التعاون. لكن هذا التعريف اللغوي البسيط يخفي خلفه بعداً سياسياً عميقاً، إذ يتضمن قبولاً ضمنياً بميزان قوى مختل.

في الحالة العربية–الصهيونية، يشير التطبيع إلى شرعنة وجود الكيان الإسرائيلي في المنطقة، ودمجه في نسيج العلاقات العربية ككيان طبيعي رغم استمرار الاحتلال. وهو بذلك ليس “سلاماً” متكافئاً، بل تكريسٌ لواقع الهيمنة في صيغةٍ مؤسسية تتغلغل في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.

 الجذور التاريخية والفكرية

 نشأ مصطلح التطبيع في الأدبيات الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر ليعبّر عن “تطبيع اليهود” كأمة موحدة بعد الشتات. وبعد قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948، انتقل المفهوم ليصف الجهود الرامية إلى جعل هذا الكيان مقبولاً في الإقليم العربي.

   منذ ذلك الحين، ارتبط التطبيع بالمشروع الصهيوني الأوسع الذي يسعى لإلغاء حالة الرفض العربي وتحويل الصراع إلى تفاعلٍ وظيفي. وقد ساعدت الهزائم العسكرية العربية، والانقسامات الإيديولوجية، وتبدّل الأولويات الإقليمية على تحويل هذا المشروع إلى سياسة واقعية قائمة على “السلام مقابل الأمن”، ثم إلى “السلام مقابل الازدهار” في مرحلة ما بعد أوسلو.

 التحولات السياسية ودراسات الحالة

   بدأ المسار التطبيعي فعلياً باتفاقية كامب ديفيد عام 1978 بين مصر وإسرائيل، والتي مثّلت انتقالاً من الصراع إلى التسوية المنفردة، ثم اتفاق أوسلو عام 1993 الذي أدخل منظمة التحرير الفلسطينية في مسار تفاوضي مع إسرائيل، فمعاهدة وادي عربة عام 1994 مع الأردن.

  أما اتفاقيات أبراهام عام 2020 فقد دشنت مرحلة جديدة قوامها دمج إسرائيل في الإقليم العربي عبر شبكة علاقات اقتصادية وأمنية وإعلامية تتجاوز القضية الفلسطينية نفسها.

تُظهر هذه الحالات أن التطبيع انتقل من “صفقة سياسية” إلى “بنية استراتيجية”، ومن “اعتراف دبلوماسي” إلى “شراكة بنيوية” تمس الاقتصاد والأمن والفضاء الرمزي العربي.

 الاختراق البنيوي وأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية

 لم يعد التطبيع فعلاً سياسياً محدوداً، بل أصبح منظومة اختراق متكاملة تستهدف البنية العميقة للمجتمعات العربية.

   على المستوى السياسي، يسعى إلى إعادة ترتيب أولويات الأمن العربي، بحيث تنتقل إسرائيل من موقع العدو إلى موقع الشريك الأمني، ومن ثم تُعاد صياغة التهديدات لتصبح “إيران” أو “الإرهاب” بدلاً من الاحتلال.

   اقتصادياً، يُروَّج لما يسمى “السلام الاقتصادي” بوصفه مدخلاً للتنمية، لكنه في جوهره يخلق اعتماداً غير متكافئ يجعل القرار الاقتصادي العربي مرتهناً لشبكات التكنولوجيا والطاقة الإسرائيلية.

   أما ثقافياً، فيتخذ التطبيع شكل “الاختراق الناعم” عبر التعليم والإعلام والفنون، حيث تُعاد صياغة الرموز والمعاني في الوعي العربي ليُستبدل العدو بصورة “الشريك المحتمل”.

   بهذا يصبح التطبيع منظومة لإعادة تعريف الذات والآخر في المخيال الجمعي العربي.

 انعكاس التطبيع على الأمن القومي والهوية

     أول آثار التطبيع هو تفكيك مفهوم الأمن الجماعي العربي الذي تأسس على وحدة الخطر ووحدة المصير. فالمعاهدات المنفردة أضعفت فكرة الأمن المشترك، وكرّست نمط “التحالفات الانتقائية” على حساب منظومة التضامن العربي.

   كما أدى التطبيع الأمني والاستخباراتي إلى فتح قنوات اختراق مؤسسي في البنى الحساسة للدول، مما يهدد استقلال القرار الوطني ويعرض الأمن السيبراني والعسكري لمخاطر جسيمة.

   أما على مستوى الهوية، فإن أخطر ما يطرحه التطبيع هو تحويل الوعي الجمعي من “ثقافة المقاومة” إلى “ثقافة التعايش” في ظل اللاعدالة. إنها عملية إعادة برمجة للعقل العربي، تنقل الهوية من الرفض إلى القبول، ومن الممانعة إلى التبرير، وتفرغ الانتماء القومي من مضمونه التحرري.

   بهذا المعنى، يصبح التطبيع أداة لهدم الهوية أكثر مما هو وسيلة لبناء السلام.

 سبل مواجهة التطبيع

   مواجهة التطبيع ليست عملاً سياسياً فقط، بل مشروع حضاري شامل.

سياسياً، يجب إعادة تفعيل العمل العربي المشترك، ورفض التطبيع الأحادي الذي يُضعف الموقف الجماعي، ودعم الحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية بوصفها جوهر الصراع.

   ثقافياً وفكرياً، ينبغي إعادة بناء الوعي العام حول معنى الاحتلال والعدالة والحرية، من خلال المناهج الدراسية والإعلام المستقل والفنون المقاومة، بحيث تُستعاد القيم القومية في الذاكرة الجمعية.

   قتصادياً، يُعدّ الانفكاك التدريجي عن شبكات التبعية المرتبطة بالكيان الصهيوني ضرورة استراتيجية، وذلك عبر مشاريع عربية بديلة وتعزيز التكامل البيني.

   أما إعلامياً، فمطلوب إنشاء فضاء عربي مقاوم للدعاية التطبيعية، قادر على توظيف المنصات الرقمية لتشكيل وعي جماهيري مستنير.

   وعلى المستوى الشعبي، تظل المقاطعة المدنية والطلابية والثقافية أداة فعالة لإعادة تعريف العلاقة مع الكيان الصهيوني، ولبناء ثقافة مقاومة مستدامة تتجاوز اللحظة السياسية.

 الخاتمة

   يمثل التطبيع في صورته الراهنة أخطر أشكال التحول في الصراع العربي–الإسرائيلي، لأنه ينقل المواجهة من الميدان العسكري إلى ميدان الوعي والبنية والهوية.

   إنه ليس نهاية الصراع بل إعادة إنتاج له بوسائل أكثر نعومة وفاعلية. فالمشروع الصهيوني لم يعد يكتفي باحتلال الأرض، بل يسعى إلى احتلال الوعي وإعادة تشكيل الإدراك الجمعي العربي.

   وعليه، فإن مقاومة التطبيع ليست خياراً أيديولوجياً، بل واجب استراتيجي لحماية الهوية والسيادة والأمن القومي العربي.

   فالسلام الحقيقي لا يقوم على الخضوع، والهوية لا تُحفظ إلا بالوعي، والعدالة لا تُبنى على تنازلٍ عن الحق التاريخي. إن مقاومة التطبيع هي معركة الوعي، ومعركة الوعي هي شرط التحرر.

 التوصيات

  • دعم البحث العلمي العربي في دراسة التطبيع وآثاره البنيوية.
  • إنشاء مراكز رصد وتحليل عربية مختصة بمتابعة الاختراق الإسرائيلي.
  • إدراج موضوع التطبيع والمقاومة في المناهج الجامعية ومقررات العلوم السياسية.
  • بناء دبلوماسية ثقافية عربية تواجه الرواية الصهيونية في المحافل الدولية.
  • إعادة صياغة مفهوم الأمن القومي العربي على أسس من التكامل والاستقلال والسيادة الثقافية.

 قائمة المراجع

المراجع العربية

  • أبو خليل، أسعد. (2010). الموسوعة السياسية للصراع العربي–الإسرائيلي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
  • الجندي، أنيس. (2005). التطبيع الثقافي: قراءة في المفهوم والممارسة. القاهرة: دار الفكر العربي.
  • الهواري، عبد الله. (2018). التطبيع في الفكر السياسي العربي المعاصر. عمّان: دار الشروق.
  • الخولي، سامي. (2002). الأمن القومي العربي بين النظرية والتطبيق. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  • عبد الهادي، ناصر. (2021). اتفاقيات أبراهام: قراءة في التحولات الجيوسياسية العربية. بيروت: المعهد العربي للدراسات الاستراتيجية.

 المراجع الأجنبية

 * Bar-Tal, D. (2007). Sociopsychological Foundations of Intractable Conflicts. American Behavioral Scientist, 50(11), 1430–1453.

  • Gause, F. G. (2014). The Middle East and the Balance of Power. Cambridge University Press.
  • Khalidi, R. (2020). The Hundred Years’ War on Palestine. New York: Metropolitan Books.
  • Makdisi, K. (2019). The Arab-Israeli Conflict and the Struggle for Justice. Routledge.
  • Pappé, I. (2014). The Idea of Israel: A History of Power and Knowledge. London: Verso Books.

Related Articles

Back to top button