التفسير العلمي للقرآن في تفسير الظلال.

فرج كُندي
باحث وكاتب في الدراسات الإسلامية.
التفسير العلمي هو محاولة الكشف عن الإشارات العلمية في آيات القرآن الكريم، وربطها بالحقائق أو النظريات العلمية المعاصرة، وهو نوع من أنواع التفسير الموضوعي، لكنه يركز على الجانب الكوني في النصوص القرآنية.
يقول الإمام يوسف القرضاوي عن خصائص القرآن: ومن خصائص القرآن أنه كتاب معجز، أمر الله رسوله أن يتحدى به المشركين من العرب أن يأتوا بحديث مثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة مثله، فغُلبوا وانقطعوا، وسجل القرآن عليهم ذلك في جلاء وصراحة: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} الإسراء 88.
فالقرآن بهذا هو آية محمد العظمى، ومعجزته الخالدة.
والإعجاز القرآني له أوجه أو جوانب عديدة ومتنوعة منها:
– الإعجاز البياني:
وهو متعلق بالبيان وبلاغة القرآن في عباراته ونظم ألفاظه وأسلوبه غير المسبوق.
– الإعجاز الموضوعي:
وهو ما تناوله القرآن من الحكمة والموعظة والهداية، وما قرره من إصلاح تربوي وأخلاقي وتشريعي وما فيه صلاح الأفراد والأمم في دينهم ودنياهم.
– الإعجاز العلمي:
وهو ما يتعلق بما جاء من إشارات علمية في بعض آيات القرآن الكريم، فأصبحت حقائق بعد أن كشف عنها العلم الحديث، وكانت غير معروفة حين نزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم وغير مكتشفة؛ بل مجهولة لقرون طويلة بعد البعثة.
يقول الإمام القرضاوي رحمه الله: ومثل هذا لا يتصور أن يصدر من بشر، لا يدري ماذا يكسب غدا؛ فضلا عما يكسب غيره، وما تكشفه البشرية بعد قرون وقرون، وإنما يُتصور أن يصدر هذا من خالق الكون ومدبره؛ فهو القادر على أن يودع كتابه من أسرار الوجود ما لا يعلمه غيره، وأن يصوغ ذلك في أسلوب يتسع لإدراك السابقين وفهم اللاحقين.
ويعدّ موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم من الموضوعات التي وردت عنها إشارات من العلماء والمفسرين المسلمين قديما مثل الرازي والغزالي؛ إلا أنه في العصر الحديث أصبح الإعجاز العلمي في القرآن موضوعا مهما وأصبح له مختصون وباحثون متخصصون في علوم متنوعة مع إلمامهم بعلوم القرآن وتفسيره.
ومن المفسرين المعاصرين الأستاذ سيد قطب، رحمه الله، الذي أورد إشارات في تفسيره: “في ظلال القرآن”، حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
لا يعدّ سيد قطب رحمه الله من المتخصصين في العلوم التطبيقية التجريبية، ولكن لم يخلُ تفسيره “في ظلال القرآن” من إشارات علمية في تفسيره لبعض الآيات القرآنية التي تحمل إشارة علمية، ومع ذلك لم يعدّ تفسيره تفسيرا علميا بمعناه الدقيق.
كان للأستاذ سيد قطب رحمه الله ( 1966-1906) رأي في التفسير العلمي للقرآن الكريم تناوله في تفسيره (في ظلال القرآن) في تفسير قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} البقرة ١٨٩ حيث قال: إن الله حدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم في حياتهم، ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم، وهي داخلة في مدلول السؤال: ما بال الهلال يبدو دقيقا.. كذلك لم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية وهي داخلة في السؤال: لماذا خلق الله الأهلة؟
فما هو الإيحاء الذي ينشئه هذا الاتجاه في الإجابة؟
يقول الأستاذ سيد: إن القرآن الكريم كان بصدد إنشاء تصور خاص ونظام خاص ومجتمع خاص، والإجابة عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علما نظريا في الفلك إذ هم استطاعوا بما لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين أن يستوعبوا هذا العلم. ولقد كان ذلك مشكوكا فيه كل الشك، لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات.
من هنا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية، ولا تفيدها كثيرا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها، وليس مجالها على أي حال. إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية، ولم يجئ ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي كما يحاول بعض المتحمسين له أن يتلمسوا فيه هذه العلوم. إن تلك الحالتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله.
– مجال القرآن عند سيد قطب:
لم يتبنَّ سيد قطب التفسير العلمي بالمعنى الذي اتبعه المختصون بالتفسير العلمي في العصر الحديث من أمثال: الشيخ طنطاوي جوهري، والشيخ عبد المجيد الزنداني، والدكتور زغلول النجار؛ بل كان حذرا ومحذرا من ربط تفسير الآيات القرآنية بنظريات قابلة للتغيير والسقوط، يقول في مقدمة تفسير الظلال: (والقرآن ليس كتاب علوم، ولكن قد ترد فيه إشارات إلى بعض الحقائق الكونية، لا لتقررها علمياً؛ بل للاستدلال بها على الخالق، وإثبات عظمته وقدرته).
بعد أن يقرر الأستاذ سيد قطب أن القرآن لم يأتِ ليكون كتاب علوم، وأن مهمته أكبر من ذلك يحدد مجال القرآن ووظيفته: إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية، وإن وظيفته أن ينشئ تصورا عاما للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه، وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاماً للحياة ويسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته، ومن بينها طاقته العقلية التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامته، وإطلاق المجال لتعمل – بالبحث العلمي – في الحدود المتاحة للإنسان، وبالتجريب والتطبيق وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال. أي بحسب ما تتوافر عليه العلوم من اكتشافات ونتائج مثبتة.
– سيد وأصحاب اتجاه التفسير العلمي.
بعد بيان سيد، رحمه الله، لغرض القرآن ومقاصده العامة، قال رأيه في أصحاب اتجاه التفسير العلمي للقرآن الكريم، محذرا من الانجرار وراء التسرع في إضفاء تفسيرات خاطئة أو غير دقيقة تؤدي إلى نتائج عكسية:
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك، وما إليها كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه.
وكأن الأستاذ يقول: لهم إن القرآن لم ينزل لأجل هذا ولا يحتاج إلى مثل هذا التعظيم، والتكبير بمثل هذا الأسلوب!
فيقول: إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، أضخم من تلك العلوم كلها، لأنه هو الإنسان ذاته، الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها. والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان، والقرآن يعالج -بناء على هذا- الإنسان نفسه، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره. كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه.
الحقائق القاطعة وما يصل إليه العقل الإنساني:
يقول سيد لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما نسميه (حقائق علمية) مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.
فالحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة أمام ما يصل إليه العلم البشري.
هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى علمية، ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها؛ فهذه كلها ليست حقائق علمية حتى بالقياس الإنساني، وإنما هي نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرا أكبر من الظواهر؛ أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق، ومن ثم فهي قابلة دائما للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب بظهور أداة كشف جديدة أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة.يقرر سيد قطب أن أي محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة أو بحقائق علمية غير مطلقة فإنها تحت ثلاثة معانٍ كلها لا تليق بجلال القرآن الكريم:
الأولى: الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع.
الثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته.
الثالثة: التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر.
– منهج تفسير سيد العلمي لخلق الإنسان والجان في سورة الرحمن
تناول الأستاذ سيد، رحمه الله، التفسير العلمي في تفسير سورة الرحمن في تفسيره الظلال، في قوله تعالى: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار.. فبأي آلاء ربكما تكذبان} يقول الأستاذ سيد: فحين يمتن الله على الجن والإنس بنعمة الإيجاد الخلق والإنشاء؛ فإنما يمتن عليهما بالنعمة التي تفوق حد الإدراك، ثم يقرر الحق سبحانه مادة خلق الإنس والجن، وهي كذلك من خلق الله، والصلصال: الطين عند الضرب عليه إذا يبس وصار له صوت وصلصلة عند الضرب عليه. وقد تكون هذه حلقة في سلسلة النشأة من الطين أو من التراب، كما أنها قد تكون تعبيرا عن حقيقة الوحدة بين مادة الإنسان ومادة الأرض في عناصر التكوين.
فقال: وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض، فهو يتكون من الكربون، والأكسجين، والهيدروجين، والفسفور، والكبريت، والآزوت، والكالسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، والكلور، والمغنيسيوم، والحديد، والمنجنيز، والنحاس، واليود، والفلورين، والكوبالت، والزنك، والسليكون، والألومنيوم. وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب، وإن اختلفت نسبها في بعضها عن الآخر وفي الإنسان عن التراب. إلا أن أصنافها واحدة.
ويقول محذرا: إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآن، فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم، أو تعني شيئاً آخر سواه. وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب أو طين أو صلصال.
ويشير سيد في قوله تعالي: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} الذاريات 47. إلى أن الكون دائم في اتساع دائم وهو ما تقره نظرية تمدد الكون، ولكنه يكتفى بالإشارة دون الخوض في تفاصيل عملية. فكلمة موسعون تفيد الاستمرارية والتواصل في النمو وهذا ما كشفه العلم الحديث عن تمدد الكون ومع تأكيده أنه لا يلزم أن يكون هذا قصد القرآن على وجه التحديد.
وفي عرضه تفسير قوله تعالي: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} في سياق إيماني إلا أنه لا يهمل الإشارة إلى أن هذه أصبحت حقيقة علمية مقررة بما ثبت أن الماء يشكل %70 من تركيب الكائنات الحية.
وفي تفسيره لمراحل أطوار الجنين أشار لقوله تعالى: {خلق الإنسان من علق} إلى دقة لفظ علق ومعناه التعلق والتشبث، وربطه بأطوار الجنين في أطوار تكوينه الأولى دون الدخول في تفاصيل أو إسهاب واسع.
التسرّع في التفسير العلمي:
يفرق سيد قطب بين الحقيقة العلمية القطعية الثابتة التي تدل على إعجاز القرآن وبين النظرية القابلة للتبديل والتغيير التي لا يصح ربطها بالقرآن بدلالات علمية متكلفة أو مصطنعة في بعض الأحيان، وينتقد في أكثر من موضع الذين يحملون الآيات القرآن
لتتوافق مع نظريات علمية مكتشفة حديثاً، ويرى أن الأصل في القرآن مخاطبة الفطرة والعقل، ولا يحتاج أن نبحث له عن تصديق في المختبرات العلمية.
يقول الأستاذ سيد: والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري قابل للخطأ والصواب، وقابل للتعديل والتبديل، كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة؛ فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية تجريبية أو افتراضية – بنية بيان ما في القرآن من إعجاز- فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها.
ونصوصه أوسع مدلولا من حصرها في نطاق تلك الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن، هو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق، دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم. إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه.
فأما خلق الجان من نار فمسألة خارجة عن حدود العلوم البشرية، والمصدر الواحد فيها هو هذا القرآن. خبر الله الصادق الذي خلق وهو أعلم بمن خلق.. والمارج: المشتعل المتحرك كألسنة النار مع الرياح! وللجان قدرة على الحياة في هذه الأرض مع الإنس.. ولكنا لا ندري كيف يعيش الجان وقبيله. فأما الأمر المستيقن فهو أنهم مخاطبون بهذا القرآن قال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن..} وكما هو الحال هنا في سورة الرحمن.
يقول الدكتور أحمد بوحجر في كتابه: “التفسير العلمي للقرآن في الميزان”:
ومن تفسير القرآن بالقرآن الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف كقوله تعالى في خلق آدم عليه السلام من تراب – مرة (من تراب) {كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} آل عمران ٥٨. ومرة من طين (طين لازب) {إنا خلقناهم من طين لازب} الصافات ١١.، وتارة أخرى {من حمأ مسنون} الحجر ٢٦. ورابعة {من صلصال كالفخار} الرحمن ١٢، فهذا تفصيل للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه، فأول بدايته كان تراباً متفرق الأجزاء ثم أضيف إليه الماء فصار طيناً، ثم ترك حتى أنتن واسودّ فصار حمأ مسنوناً (أي متغير) ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار، وعلى هذه الأطوار والأحوال تتخرج الآيات الواردة في خلقه عليه السلام.
– خصائص التفسير العلمي في تفسير الظلال
يتناول الآيات ذات البعد الكوني حين تكون خادمة للغرض الإيمانيّ والتربوي الذي يراه سيد هو الهدف الأول للقرآن الكريم.
يري سيد قطب أن التفسير العلمي أداة لتعميق الإيمان وليس لاكتشاف أسرار الكون.
يتحفظ عن التوسع في التفسير العلمي إلا بدلالة يقينية ثابتة وواضحة.
قائمة المراجع:
– تفسير الظلال – سيد قطب.
– التفسير العلمي للقرآن في الميزان – أحمد عمر أبوحجر




