عاممقالاتمقالات تربوية

التنظيم والانضباط في دولة زنكي… ملامح التجديد العسكري الإسلامي في عهد الزنكيين

التنظيم والانضباط في دولة زنكي… ملامح التجديد العسكري الإسلامي في عهد الزنكيين

بقلم: د. علي محمد الصلابي

اهتم عماد الدين زنكي بالجيش اهتماماً كبيراً، وبرز هذا الاهتمام في شكل ووظيفة الدواوين التي كانت تختص بشؤون الجيش والعسكر، وأيضاً في طرق وأساليب عماد الدين زنكي في إدارة المؤسسة العسكرية.

1 ـ الجيش: كانت مؤسسة الجيش الضاربة قد استخدمها زنكي للقضاء على الإمارات المحلية لكي يوحدها في جبهة إسلامية متماسكة ليستطيع مجابهة الصليبيين، وقد اعتنى بجيشه بحيث أصبح قوياً متماسكاً. ومن الأمور المتعلقة بالجيش التي اهتم بها زنكي:

أ ـ ديوان الجيش: نظم زنكي ديوان الجيش؛ ليقوم بالإشراف على أمور الجند وتنظيمهم، وتوزيع رواتبهم، وأعطياتهم بانتظام، وجعل على رأس هذا الديوان موظفاً أعلى يطلق عليه «أمير حاجب»، وكان عمله أن ينصف بين الأمراء والجند، تارة بنفسه، وتارة بمشاورة السلطان، وتارة بمراجعة النائب، وإليه تقديم من يعرض ومن يرد وعرض الجند،وما ناسب ذلك. (صبح الأعشى، أحمد القلقشندي، (4/19).

كما كان ينظر في مخاصمة الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، وذكر ابن الأثير: أنَّه: كان لزنكي جماعة كثيرة من الخراسانية في الركاب أي ما يشبه الحرس الخاص المرافق للأمير، يُقال لهم: الجامكيات الوافرة، وكان في الديوان من يجمعونها من جهاتها، ويقسمونها عليهم كل ثلاثة أشهر مرة، ففي بعض السنين تأخرت رواتبهم تأخراً يسيراً، فاجتمعوا ووقفوا بحيث يراهم زنكي مجتمعين، فعلم أنهم يشكون شيئاً، فأرسل إليهم ، وسألهم عن حالهم فذكروه له ، فقال لهم: أشكوتم إلى الديوان؟ قالوا: لا، قال: فهل ذكرتم حالكم للأمير حاجب؟ قالوا: لا ، قال: فلأي شيء أعطي الديوان مئة ألف، وأعطي الأمير حاجب أكثر من ذلك، إذا كنت أنا أتولى الأمور صغيرها وكبيرها! .. كان عليكم أن تشكوا حالكم إلى الديوان، فإن أهملوا أمركم قلتم لـ (أمير حاجب فإن أهمل أمركم شكوتم الجميع إليَّ حتى أعاقبهم على إهمالهم، وأما الان فالذنب عليكم، ثم أمر بتأديبهم،وقطع رواتبهم، حتى شفع فيهم بعض الأمراء فعفا عنهم، ثم أحضر موظفي الديوان، وأمير حاجب وقال لهم: إذا كنتم تهملون أمر جندي الذين تحت ركابي، ومن هو ملازمي في سفري وإقامتي، وبهم من الحاجة إلى النفقات في أسفارهم ما تعلمونه، فكيف يكون حال من بعد عني؟ وأنكر عليهم ذلك، فخرجوا من عنده، وفرقوا في الأجناد من أموالهم إلى حين وصول «رواتبهم» فأخذوا عوض ما أخرجوه، ويعلق ابن الأثير على هذه الحادثة قائلاً بأن زنكي بهذا الإجراء: أصلح الجند لطاعة الديوان، وأصلح الديوان للنظر في مصالح الجند،وعظم نفسه عن أن يخاطب في هذا الأمر الحقير، وسهل عليه بذل المبلغ الكثير لمن يقوم بأموره. (التاريخ الباهر، ابن الأثير، ص83)

ج ـ تنظيم الجيش وعناصره: تعتبر نظم عماد الدين زنكي امتداداً لنظم السلاجقة من جهة، وأساساً للنظم الأيوبية والمملوكية من جهة أخرى، ومن العناصر التي كانت تشكل جيش زنكي: الخراسانيان، والتركمان الذين كانوا يشكلون أعداداً كبيرة؛ إذ يشير ابن القلانس إلى أن زنكي عندما حاصر الرُّها عام 539هـ كاتب طوائف التركمان بالاستدعاء لهم للمعونة عليه (أي: على الرُّها) وأداء فريضة الجهاد، فوصل إليه منهم الخلق الكثير بحيث أحاطوا بها من جميع الجهات، وحالوا بينها وبين ما يصل إليها من الميرة والأقوات.(عماد الدين زنكي، عماد الدين خليل، ص 197)

وقد استفاد زنكي من التركمان لجهاد الصليبيين بالدرجة الأولى، وقام بنقل طائفة من التركمان الأيوانية مع أميرهم «الياروق» إلى الشام، وأسكنهم بولاية حلب، وأمرهم بجهاد الفرنج، وملكهم كل ما استنفذوه من البلاد التي لهم.. فكانوا يغادرون الفرنج بالقتال،ويراوحونهم، ولم يزل جميع ما فتحوه بأيديهم إلى سنة 600هـ. وقد استفاد الأمير سوار بن إيتكين التركماني نائب زنكي في حلب من التركمان في غارته ضد الصليبيين في شمالي الشام، واستطاع أن يحقق بواسطتهم انتصارات عديدة، وكان التركمان ينتشرون في معظم أنحاء الشام وبخاصة مناطق الفرات، وكانوا طوائف كثيرة وجماعة كبيرة. (زبدة حلب، بن العديم، (2/264 ـ 268))

وكان زنكي يمضي إلى الفرات لجمع التركمان قبل القيام بمعاركه المهمة؛ إذ كان هؤلاء بأعدادهم الضخمة، ومرانهم في الحرب ، وشجاعتهم ، يشكلون أهم عنصر في جيشه، وجاءت إشارات متعددة عن(الحلبيين) كقوة عسكرية اشتركت في معارك عديدة ضد الصليبيين في شمالي الشام بقيادة الأمير سوار ، وقامت بدور أساسي في الدفاع عن حلب وبعض المدن الأخرى القريبة عند هجوم الامبراطور البيزنطي المتحالف مع الصليبيين على هذه المنطقة عام 532 هـ، كما قام الحلبيون بدور هام في فتح الرُّها عام 539 هـ جنباً إلى جنب مع الخراسانيين؛ إذ كان في (الحلبيين) أيضاً من هو «عارف بمواضع النقوب» ، فنقبوا عدة مواضع مع الخراسانيين ، وأشعلوا فيها النار مما أدى إلى انهيار بعض أجزاء السور ودخول المسلمين إلى الرُّها. (ذيل تاريخ دمشق، بن القلانسي، ص 279)

وقد كان هؤلاء الحلبيون من سكان حلب الأصليين، أي من العرب، بدليل ما أورده ابن العديم من أن زنكي كان يجبر فلاحي حلب على الالتحاق بجيشه في أوقات القتال، ويظهر أن هؤلاء كانوا يتركون الجيش، ويعودون إلى أعمالهم الزراعية بعد انتهاء القتال، ولا ريب: أنهم كانوا يتقاضون أجوراً على اشتراكهم في المعارك، سواء كانت أرزاقاً معينة، أم ما يحصلون عليه من الغنائم، وقد ذكر ابن واصل أن زنكي رحل إلى أرض حماة عام 533هـ واستصحب من أهلها تسعة الاف راجل يخدمون الركاب. أي: للقيام بمهمة الحشم في خدمة الجيش وأمرائه في حلهم وترحالهم، فضلاً عن حراسة زنكي الخاصة، مما يشير إلى أن هذا اعتمد على أهالي الشام في كثير من الأمور الحربية واعتمد جيشه على عناصر أخرى كالبدو والأكراد.

هــ ـ عدد جيش زنكي: ويظهر مما سبق: أنَّ عدد جيش زنكي لم يكن ثابتاً، بل كان عرضة للزيادة والنقصان بما ينضم إليه من المتطوعين من حين لآخر. وقد حاول زنكي أن يضمن وجود مورد عسكري بشري ثابت، ففرض التجنيد الإجباري على بعض المناطق القريبة من مواطن الخطر، ولذلك كان يلزم أهل حلب بجمع الرجالة للقتال والحصار، فإن كان ذلك في جهـاد الكفار؛ فقـد كان يجب عليهـم ذلك، وله إلزامهم به. (عماد الدين زنكي، عماد الدين خليل، مرجع سابق، ص 199)

ـ معسكرات عماد الدين زنكي: هنالك إشارات محدودة عن معسكرات الجنود، ففي شتاء إحدى السنين قدم زنكي إلى جزيرة ابن عمر، فنزل بالقلعة، وعسكر جنده في الخيام خارج المدينة، الأمر الذي يشير إلى وجود معسكرات غير ثابتة في الحالات الطارئة، وأمَّا في الحالات الدائمة، فقد كان زنكي يقيم حامية عسكرية في كل مدينة، أو حصن يفتحه بعد أن يقطع أراضيها لأمراء الحامية وجنودها وهذا يؤكد وجود معسكرات ثابتة في مختلف المناطق التابعة لزنكي، ولم تحدد المصادر فيما إذا كانت سكنى الجند داخل القلاع أم خارجها؟

س ـ استدعاء الجيوش وأساليب الحرب: قبيل إعلان الحرب كان زنكي يستدعي قوات من المتطوعين لتنضم إلى جيوشه النظامية المجهزة. فعندما عزم على فتح الرُّها عام 539هـ كاتب طوائف التركمان بالاستدعاء لهم للمعونة عليها، وأداء فريضة الجهاد فوصل إليه منهم الخلق الكثير. كما كان يمر ـ في طريقه إلى الحرب ببعض مدن إمارته ، ويجمع منها الجند ليضيفهم إلى قواته كما فعل مع أهالي حلب، وحماة وكان الجهاد ضدَّ الصليبيين أحد الدوافع المهمة في اشتراك المتطوعين في حروب زنكي وخصوصاً التركمان، كما كانت الرغبة في الغنائم والخوف من سلطة زنكي من الدوافع الأخرى لذلك، وكانت معظم المعارك التي خاضها زنكي عبارة عن هجمات ومحاصرة للحصون الكثيرة المنتشرة في منطقة الجزيرة والشام ، وأما المعارك المفتوحة فإنَّها كانت أقلَّ من حروب الأسوار بشكل ملحوظ ، ولذلك قلت الإشارات عن الأساليب التي اتبعت فيها. (عصر الدولة الزنكية، د. علي الصلابي، ص68)

وكان للجواسيس أهمية كبيرة في المعارك التي خاضها زنكي ، وكانوا ينتشرون في مناطق العدو ، ويطلعون أميرهم على تحركاته ، وإمكانياته لكي يكون على بينة من الأمر، وكان زنكي يحدد موقفه الحربي أحياناً بناء على ما يقدمه هؤلاء من معلومات، ومن ثم يتجه هو أو أحد قواده على رأس الجيش لفرض الحصار، فإذا ما استدعت الظروف السرعة في السير؛ اتخذ من الوسائل ما يكفل ذلك ، ففي عام 528هـ على سبيل المثال توجه إلى (خلاط) وأراد الوصول إليها بسرعة ، فسلك طريقاً عبر الجبال عبر الطريق المسلوك، وكان جنده يستريحون، كل واحد في موضعه دون خيام. وعندما توجه لحصار الرُّها عام 539هـ استعان على السرعة بركوب النجائب (أي: الإبل صغيرة العمر). (عماد الدين زنكي، عماد الدين خليل، ص 202).

ص ـ الاستخبارات: أقام عماد الدين زنكي جهازاً للمخابرات، وخصص له الموظفين، والرواتب، وقد ورد عنه أنَّه: كان شديد العناية بأخبار الأطراف وما يجري لأصحابها حتى في خلواتهم، وكان له في بلاد السلطان السلجوقي من يطالعه، ويكتب إليه بكل ما يفعله السلطان في ليله ونهاره، وحرب وسلم، وهزل وجد، وكان يصرف على ذلك الأموال الجليلة، وكان يصل إليه في كل يوم عدة قاصدين، أو كتب كما كان له في كل بلد من يطالعه بالأخبار.

وقد اتصف عماد الدين زنكي بالدراية الواسعة والحذر في هذا المجال ، فكان لا يُمكِّن رسول ملك يعبر في بلاده بغير إذنه ، وإذا استأذنه رسول في العبور إلى بلاده أذن له ، وأرسل إليه من يسيره، ولا يتركه يجتمع بأحد من الرعية ولا غيرهم ، فكان الرسول يدخل بلاده ويخرج منها، ولا يعلم من أحوالها شيئاً البتة، كما كان لا يمكِّن أحد موظفيه من مغادرة بلاده، ويعلل ذلك بأن البلاد كبستان عليه سياج فمن هو خارج السياج يهاب الدخول، فإذا خرج منها من يدل على عورتها ويطمع العدو فيها؛ زالت الهيبة ، وتطرق الخصوم إليها وهنالك عدد من الروايات حول هروب بعض موظفيه، وفلاحيه إلى الإمارات الأخرى، وإلحاحه بإعادتهم إلى إمارته؛ حتى لو اضطره ذلك إلى استخدام القوة. (كتاب الروضتين، أبي شامة المقدسي، ج2 ص283)

وقد قدم جهاز مخابراته خدمات مهمة له في ظروف شتَّى، ولعب دوراً هاماً في حصار بعرين عام 531هـ، وحصار الرُّها عام 539هـ، كما كان يستخدمه عماد الدين للتعرف على أحوال الجند لدى حصارهم بعض المواقع وملاحظة ما يصل إليهم من رواتب وسلاح، وكان عماد الدين زنكي مع اشتغاله بأمور الدولة الهامة لا يهمل الاطلاع على القضايا الثانوية، معللاً ذلك بأن الصغير إذا لم يعرف؛ ليمنع؛ صار كبيراً. وكان من الطبيعي أن رجال المخابرات في الدولة الزنكية ارتبطوا بعماد الدين مباشرة نظراً لأهمية دورهم السياسي والعسكري، ولأنهم كانوا يتسلمون أوامرهم المباشرة منه. (التاريخ الباهر، ابن الأثير، مرجع سابق، ص78)

 كان عماد الدين زنكي رجلاً ذا هدف واضح، وهذا أول شروط النجاح، وكان جاداً ومثابراً في تنفيذ خططه، وكان غالباً لا يهادن الصليبيين قاسياً عليهم، وكان حريصاً على نشر الخوف في حصونهم، وقلاعهم، ومدنهم، وكان يقدر الظروف الحربية، وتجنب مهاجمة مملكة بيت المقدس؛ حتى لا يثير أوروبا ضدَّه، فقد كان هدفه القضاء على الأطراف مثل الرُّها، وإضعاف أنطاكية، والقضاء على إمارة طرابلس، وله فقه كبير في السياسة الحربية. (الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أبو زيد، ص169)

المراجع:

التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، ابن الأثير الجزري، تحقيق عبد القادر طليمات، طبعة القاهرة 1963.
الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أحمد أبو زيد الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية. .
الدولة الدول الزكية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار المعرفة – بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ – 2007م.
ذيل تاريخ دمشق أبو يعلى حمزة بن القلانسي، تحقيق أميدروز طبعة بيروت 1908م.
زبدة الحلب من تاريخ حلب كمال الدين أبو القاسم بن العديم، تحقيق سامي الدهان، طبعة دمشق 1954م
صبح الأعشى في صناعة الإنشاء لأبي العباس أحمد القلقشندي، القاهرة، مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن علي حرره فيليب حتي – مطبعة جامعة برنستون، الولايات المتحدة الأمريكية.
عماد الدين زنكي، د. عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان الطبعة الثانية 1402هـ – 1982م.
كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تأليف شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418هـ / 1997م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى