عاممقالاتمقالات تربوية

“التواضع في القرآن الكريم .. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة”

د. علي محمد الصلابي

التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ عليها القرآن الكريم،ويُعتبر أحد السلوكيات المحمودة التي يدعو إليها الإسلام. هذا الخلق الكريم هو الذي يقوض نزعة الكبر والغرور عند الإنسان، ولما كان القرآن الكريم يشدد على ذمّ الكبر ويتوعد المتكبرين، فإن التواضع هو علاج هذا الداء لدى المسلم، والتواضع مظهر من مظاهر الأدبوالاحترام بين الناس. يُمثل التواضع في القرآن الكريم قاعدة مهمةللرفعة الحقيقية، حيث أن هذه القيمة تجمع بين تقوى النفس وعظمةالأخلاق، وهو ما يؤدي إلى تحقيق السمو والرفعة في الدنيا والآخرة.

التواضع في القرآن الكريم يعني خفض الجناح للآخرين والتعاملمعهم بدون تعالٍ أو تكبر. وينبع التواضع من إدراك الإنسان لحقيقةوجوده في هذه الحياة، وأنه عبدّ لله كغيره من العباد، وأن كل ما يملكهمن مال أو جاه أو علم هو من عند الله، وبالتالي، لا يحق له أن يتكبرأو يستعلي على الناس. قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِفِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]. وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَالْجِبَالَ طُولًا﴾[ الإسراء: 37]، وهذه الآيات تأمر الناس بشكل واضح وصريح بالتواضع وعدم التفاخر بما لديهم، وتذكر حقيقتهم كعبيد لله لا يملكون من أمرهم شيء. قال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَارَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّابَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَفِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 21 – 23].

يعكس التواضع في القرآن أيضاً مدى احترام الإنسان لحقوقالآخرين وتقديرهم بغض النظر عن مكانتهم أو قدراتهم. فالتواضع يعزز من سمو الأخلاق ويؤكد على مكانة الإنسان كخليفة لله فيالأرض، فهو الخليفة  الذي يعمل على تحقيق العدل والمساواة بينالبشر، وهذه المهمة لا تتحقق بدون التخلي عن الكبر والغرور والتحلي بخلق التواضع لله ولعباده المؤمنين. فالتواضع صفة لصيقة بعباد الرحمن كما وصفهم القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِالَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]. ولأهمية هذا الخلق في بناء شخصية المسلم وتهذيب أخلاقه فقد أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بالتحلي بصفة التواضع، وعدم التكبر والتعالي، وخصوصاً أمام إخوانهم في الدين والعقيدة. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَيَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]. وقال سبحانه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُعَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِوَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29]. بل إن الله تعالى وجه هذا الأمر بشكل خاص إلى سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم،  وهو من شهد الله تعالى له بحسن الخلق في قوله سبحانه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]. ورغم ذلك فقد شدد الله تعالى على التحلي بخلق التواضع في خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعين من القرآن الكريم، وذلك في رسالة لعموم المسلمين بأهمية هذا الخلق وضرورة الالتزام به، قال سبحانه: ﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْجَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]. وقال عز وجل: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَلِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215].

ويعتبر التواضع يعتبر مفتاحاً لبناء علاقات إنسانية متينة ومتوازنة، كما أنه يقوي أواصر المحبة ويذيب أسباب الكراهية بين الناس. فمنيتصف بالتواضع ينجح في كسب قلوب من حوله، لأنهم يرون فيهشخصاً ينظر إليهم بعين الاحترام والتقدير، دون أن يُشعرهم بأنهمأقل قيمة، فيسمعون منه وينتصحون بقوله، وذلك نهج الأنبياء في دعوتهم للناس إلى الحق والتوحيد، قال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِلِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْوَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَيُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران: 159] فالتواضع يزيد من الثقةوالود بين الناس، حيث يشعر الجميع بأنهم سواسية، فلا تطغى عليهممشاعر الحقد والتباغض أو الحسد والغيرة.

والتواضع في الإسلام سبيلاً مهماً للرفعة في الآخرة. فالله سبحانهوتعالى يكرم المتواضعين، ويرفع من شأنهم في الدارين. قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًاوَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]. وهذه الآية تؤكد على أن الرفعةالحقيقية ليست لأولئك الذين يسعون إلى العلو في الدنيا ويتكبرون ويتجبرون على الناس، بل للمتواضعين الذين يتجنبون التكبروالاستعلاء بغير الحق.

فالتواضع هو مدخل للقبول عند الله، فمن يتواضع لله ولعباده ينالرضوان الله ومغفرته، لأانه يجعل المسلم قادراً على الاعتراف بذنبه والشعور بضعفه وحاجته لله، وهذا الاعتراف يقوده إلى الاستغفار والتوبة والخشوع، مما يعزز مكانته عند الله. والقرآن الكريم يربطالتواضع وعدم التكبر بالتقوى والإيمان، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُبِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [السجدة: 15]. فالمؤمن يستشعر عظمة الله ويخشاه فيالسر والعلن، ويستحضر عجزه وضعفه، فيتعامل مع الآخرين برحمةوعدل، ويتجنب التصرفات التي تسيء للآخرين أو تنتقص من قيمتهم،لأنه يعلم أن ما عنده من فضل أو مكانة هو ابتلاء من الله ليختبر سلوكهوأخلاقه.

لذلك، ينبغي على المسلمين أن يتمسكوا بهذه القيمة العظيمةويطبقوها في معاملاتهم اليومية، وأن يسعوا دائماً إلى التخلص منمظاهر الغرور والتكبر، لأن التواضع هو الطريق الأمثل للوصول إلى أعلى مراتب الإيمان التي لا تتأتّى إلا بالتواضع لله ولخلقه.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى