الحرب على غزة…هل تعيد ترتيب البيت العربي؟؟

أ.مصباح بوكرش الورفلي
لم تعد الحرب على غزة حدثًا محليًا يخص الفلسطينيين وحدهم، بل تحولت إلى زلزال سياسي وعسكري يهزّ المنطقة العربية بأسرها. فما يجري اليوم يكشف عن حجم الارتباك الذي يعيشه النظام العربي، وعن التخوفات التي بدأت تفرض نفسها على صانعي القرار. وبين تهديدات التهجير وتداعيات الاستهداف السياسي والعسكري، تقف الأمة على أعتاب مرحلة حساسة قد تعيد صياغة أولوياتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية.
تحولات تفرضها الحرب
تشهد المنطقة العربية اليوم لحظة فارقة فرضتها الأوضاع السياسية والعسكرية الناتجة عن الحرب على غزة. فالمشهد لم يعد مجرد صراع بين قوة محتلة وشعب محاصر، بل تحول إلى عامل ضغط مباشر على المنظومة العربية بأكملها. وقد أفرزت هذه الحرب تحولات وإن لم تبلغ بعد مستوى التماسك والقوة، إلا أنها تكشف عن حالة ارتباك واضحة وتخوفات حقيقية لدى العديد من الدول العربية.
ومن أبرز هذه المظاهر ما جرى عقب المحاولة الأخيرة التي استهدف فيها وفد حركة المقاومة الإسلامية حماس في العاصمة القطرية الدوحة، حيث أثار الهجوم موجة من التساؤلات حول حجم التحديات المقبلة، وضرورة إيجاد موقف عربي أكثر انسجامًا وتماسكًا. فالحرب على غزة لم تعد مجرد قضية فلسطينية، بل أضحت قضية تتصل مباشرة بالأمن القومي العربي، وتفرض على الجميع مراجعة مواقفهم وحساباتهم.
هواجس التهجير والتوطين
قبل هذا الاستهداف، كانت هناك تسريبات عن لقاءات ثنائية بين بعض القادة العرب عكست حالة قلق متزايد من تهديدات وشيكة. ومن أهم هذه الهواجس الحديث المتكرر عن مشروع تهجير سكان قطاع غزة وتوطينهم في سيناء أو في غيرها من المناطق. مثل هذا السيناريو لا يُعد خطرًا على الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد البنية الديمغرافية والسياسية في المنطقة، ويمس مباشرةً استقرار الدول المجاورة، وخصوصًا مصر.
إلى جانب ذلك، فإن ردود الأفعال التي أعقبت الاعتداء على الدوحة أظهرت رغبة متنامية لدى بعض الدول في توحيد الصفوف، والبحث عن وجهة نظر مشتركة للتعامل مع المتغيرات المتسارعة عسكريًا وسياسيًا. ورغم أن هذه التحركات لا تزال في بداياتها، إلا أنها مؤشر على أن اللحظة التاريخية الراهنة تفرض مراجعة شاملة للسياسات العربية التقليدية.
بين الغرب والشعوب
في خضم هذه المتغيرات، يطل مجددًا رأي قديم طالما ردده بعض الساسة العرب، ومن أبرزهم جاسم بن جبر آل ثاني، رئيس وزراء ووزير خارجية قطر الأسبق، الذي كان يؤكد أن العرب أصبحوا في تبعية شبه كاملة للسياسات الغربية، ينفذون ما يُملى عليهم من الخارج لأنهم لم يلتفتوا إلى شعوبهم. وكان يصرّ على أن القوة الحقيقية لا تكمن في التحالفات الخارجية ولا في إرضاء الغرب، وإنما في الالتفات إلى الداخل، والاستناد إلى قوة الشعوب، فهي مصدر الشرعية والدعم الحقيقي.
هذا الطرح يجد اليوم صداه من جديد، فالأوضاع المتغيرة تكشف أن بقاء الأنظمة واستمرارها لم يعد مضمونًا بالاعتماد على الدعم الخارجي وحده، بل يرتبط بشكل مباشر بمدى قدرتها على بناء الثقة مع شعوبها وتبني قضاياها.
فرصة أم تهديد؟
وهنا يبرز السؤال الملح: هل يمتلك الزعماء العرب الشجاعة والقوة لبناء هذه الثقة مع شعوبهم؟ المسألة لم تعد مرتبطة فقط بمصالح الأمة العليا أو أمنها الجماعي، بل باتت مرتبطة أيضًا ببقاء الأنظمة واستقرار عروشها. فالمصالحة الحقيقية مع الشعوب قد تفتح صفحة جديدة أمام المضطهدين والملاحقين في الداخل والمهجر، وتتيح اصطفافًا وطنيًا عاجلًا يعيد للأمة توازنها، ويمنحها فرصة لاستعادة قوتها بعد أن استنزفتها عقود من الصراعات والانقسامات.
إن مثل هذا الاصطفاف لا يُعتبر ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية في ظل عالم يتغير بسرعة، ومعادلات إقليمية ودولية تُعيد رسم الخرائط والتحالفات.
لحظة مفصلية
اليوم تقف الأمة عند منعطف خطير، والمعركة مرشحة لمزيد من التصعيد والتعقيد. وفي هذه اللحظة الحساسة، فإن أي محاولة صادقة لترتيب البيت الداخلي بين الحكام والمحكومين إذا فُتح بابها يجب أن تُقبل فورًا، لأن المرحلة لم تعد تحتمل المماطلة أو إضاعة الوقت في المساومات أو تبادل اللوم.
إنها مرحلة تتطلب تمتين الصفوف، ومعالجة التصدعات العميقة، وتجاوز الخلافات التي عطلت الأمة طويلًا. فاستشراف المستقبل يفرض أن تكون الشعوب جزءًا من القرار، وأن يتحول التضامن من مجرد شعارات إلى سياسات عملية، حتى تتمكن الأمة من أن تكون في موقع متقدم ضمن التوازنات الإقليمية والدولية المتغيرة.
خلاصة القول إن اللحظة الراهنة تحمل في طياتها تهديدًا وفرصة في آن واحد؛ تهديدًا إذا ظلّت الأنظمة غارقة في خلافاتها وانقساماتها، وفرصة إذا بادرت إلى مصالحة تاريخية مع شعوبها، تفتح أبواب المشاركة والحرية وتعيد الاعتبار للقوة الشعبية. فالأمة التي استطاعت أن تصمد رغم كل الضغوط والخذلان قادرة على أن تنهض من جديد، متى ما امتلكت الشجاعة في تجاوز الماضي، ورسم مستقبل يقوم على الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم. إنها معركة الوعي والوحدة قبل أن تكون معركة السلاح والسياسة.
أ.مصباح بوكرش الورفلي