الحسكة بين التهميش والنضال من أجل العدالة

أ.خليل البطران
كاتب وباحث في الشؤون السياسية والشؤون السورية.
المقدمة: الخلفية التاريخية والموقع الجغرافي
تقع محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، وهي من أكبر المحافظات مساحةً حيث تبلغ حوالي23,334 كم²، وتتميز بموقعها الجغرافي الاستراتيجي على الحدود مع العراق وتركيا. تاريخيًا، تعاقبتعلى الحسكة العديد من الحضارات، حيث كانت جزءًا من بلاد ما بين النهرين وشهدت وجود السومريينوالأكاديين والآشوريين والبابليين، وكانت لاحقًا جزءًا من الدولة الأيوبية والمملوكية والعثمانية.
في العهد العثماني، كانت الحسكة تابعة لولاية الموصل إداريًا، وكانت تعتبر امتدادًا طبيعيًا لها من حيثالجغرافيا والتكوين القبلي والاجتماعي. ولكن بعد اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، تم فصلها عن الموصلوضمها إلى الأراضي السورية التي كانت تحت الانتداب الفرنسي. هذا التقسيم المصطنع أدى إلى تغييركبير في التركيبة الإدارية والاقتصادية للمنطقة، وبدأت مرحلة جديدة من التهميش والإهمال، استمرتحتى عهد النظام البعثي ومن ثم بعد الثورة السورية.
الأهمية الاقتصادية والزراعية والمائية
لطالما كانت الحسكة حجر الزاوية في الاقتصاد السوري، حيث تعد من أكبر المناطق المنتجة للقمحوالشعير والقطن، وتسهم بنسبة 60% من إنتاج سوريا من القمح، كما تمتلك موارد مائية هائلة من نهريالخابور ودجلة، فضلًا عن مخزونها الجوفي الغني. وإلى جانب الزراعة، تتمتع الحسكة بثروات نفطيةوغازية ضخمة، خاصة في رميلان والشدادي والهول، ما يجعلها من أهم مصادر الطاقة في سوريا.
لكن رغم هذه الثروات، لم ينعكس هذا الازدهار على أهلها، بل كانت خيراتها تُنهب لصالح النظام الذيعمد إلى توظيف أبناء الساحل السوري في قطاعات النفط والغاز، بينما حُرم أبناء الحسكة من هذهالفرص رغم مؤهلاتهم العلمية. كان النظام يجلب موظفين من خارج المحافظة، لا يحملون إلا شهاداتثانوية أو إعدادية، في حين أن خريجي الحسكة في الهندسة والاقتصاد كانوا يعانون من البطالةوالتهميش.
التهميش الثقافي والتعليمي
إحدى أبرز صور الإقصاء الذي تعرضت له الحسكة كان التهميش الثقافي والتعليمي، حيث لم يكن فيهاجامعة حتى عام 2006، ما أجبر الطلاب على السفر إلى المحافظات الأخرى لمتابعة تعليمهم. رغم ذلك،أثبت أبناء الحسكة تفوقهم الأكاديمي، فبرز منهم أطباء ومهندسون وأكاديميون في مختلف المجالات، وهوما يدل على إصرارهم على كسر حاجز التهميش الذي فرضه النظام عليهم لعقود.
الإقصاء السياسي واختزال التمثيل بشيوخ العشائر
عمد النظام إلى تهميش الحسكة سياسيًا من خلال فرض تمثيلها عبر شيوخ العشائر، الذين لم يكونواسوى أدوات بيده، يفتقر معظمهم إلى أي تأثير حقيقي، بل كان كثير منهم أميين أو مجرد وسطاء لتنفيذسياسات النظام. في المقابل، تم استبعاد الكفاءات السياسية والفكرية القادرة على إحداث تغيير حقيقيفي واقع المحافظة، مما جعلها غائبة عن دوائر صنع القرار.
التهميش الخدمي والإقصاء من الوظائف الحكومية
على الرغم من ثرواتها الهائلة، بقيت الحسكة تعاني من نقص في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياهوالطرق، وظلت البنية التحتية فيها مهملة لعقود. كما حُرم أهلها من التوظيف في المؤسسات الحيوية،خاصة في قطاع النفط، حيث فضّل النظام توظيف الموالين له من أبناء الساحل، تاركًا أبناء الحسكة بلافرص عمل تتناسب مع إمكانياتهم العلمية.
سياسة زرع الفتن بين القبائل العربية
اتبع النظام البعثي سياسة “فرق تسد” داخل الحسكة، حيث تعمّد إثارة النزاعات بين القبائل العربيةالتي كانت في الأصل متقاربة ومترابطة عبر علاقات الدم والمصاهرة. استخدم النظام هذه الفتن لضمانانشغال العشائر بخلافاتها الداخلية، ما سهل عليه التحكم بها وإضعاف أي محاولة لتمردها عليه.
الحسكة في الثورة السورية: استمرار التهميش والظلم
رغم اندلاع الثورة السورية وسقوط النظام في معظم المناطق، إلا أن الحسكة لم تنل نصيبها من التحرير،إذ بقيت تحت حكم ميليشيات “قسد“، التي استبدلت قمع النظام بقمع آخر أكثر وحشية. لم يتوقف الظلمعند هذا الحد، بل استمر إغفال تضحيات أبناء الحسكة الذين قدموا شهداء في مختلف المحافظاتالسورية منذ الأيام الأولى للثورة. كما أن المطالبات بتحريرها كانت دائمًا تهمّش واقعها المعقد، متجاهلةأن الميليشيات تحكمها بالنار والحديد، وأن ضباط النظام لا يزالون متغلغلين في مؤسساتها.
هل النفط لعنة على أهل الحسكة؟
رغم الثروات النفطية الهائلة في محافظة الحسكة، فإن أهلها لا يشعرون بأي فائدة منها. حيث تشهدالمنطقة واقعًا مريرًا من حيث البطالة والفقر. العديد من المناطق الغنية بالنفط في الحسكة تعيش فيظروف قاسية، بينما تسهم ثرواتها في تمويل الحروب والمعارك في المناطق الأخرى.
إضافةً إلى ذلك، العديد من أهل الحسكة يعانون من الأمراض بسبب تلوث البيئة الناتج عن استخراجالنفط، ومنها أمراض السرطان التي تتفشى بسبب التلوث الناجم عن استخراج النفط وتكريره.
كما يعاني أهل الحسكة من نقص حاد في الوقود والموارد الأساسية، رغم أنهم يزودون سوريا بالكاملبالكهرباء والغاز. الآن، يتم نقل النفط السوري إلى العراق عبر معبر سيملكا بواسطة القوات الأمريكية،مما يترك أهل الحسكة بلا ما يكفيهم من الوقود للتدفئة أو لأغراض الزراعة.
التهميش الاقتصادي والبطالة
على الرغم من كون الحسكة واحدة من أغنى المناطق في سوريا من حيث الموارد الطبيعية والزراعية، إلاأن أهلها يعانون من أعلى معدلات البطالة في البلاد. وفقًا لمسح أجرته مكتب العمل في عام 2011، فإنمحافظة الحسكة تتصدر المحافظات السورية بنسبة 38.8% من المتعطلين عن العمل. هذا الرقم يعكسحجم التهميش الذي تعرضت له المنطقة، حيث كان يتم توظيف أشخاص من خارج المحافظة في قطاعاتالنفط والغاز والزراعة، بينما كانت الفرص المتاحة لأبناء الحسكة قليلة جدًا.
التهميش الإعلامي:
تتعرض محافظة الحسكة لتهميش إعلامي ممنهج، حيث يتم التغطية على الحالة المزرية التي يعيشهاسكانها في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة. من اللافت أن انتشار مقاطع فيديو مؤلمة على وسائلالإعلام والتواصل الاجتماعي تُظهر نساء وأطفالًا في الحسكة يتقاتلون على بقايا طعام القاعدة الأمريكيةفي منطقة حقول رميلان، وهو ما يعكس حجم المعاناة والفقر المدقع الذي يعاني منه أبناء المحافظة فيظل التهميش والبطالة في عهد قوات “قسد“. هذه المقاطع، التي تم تداولها بشكل واسع على منصات مثليوتيوب وفيسبوك, تُبرز التهميش المستمر للمحافظة وتكشف عن الظروف الإنسانية الصعبة التي يعايشهاأهلها في ظل التدهور الاجتماعي والاقتصادي الحاصل.
التهميش الإعلامي والتغطية على الفقر والجوع:
في ظل حكم “قسد“، يتم تهميش الواقع الصعب الذي يعيشه أهالي الحسكة على كافة الأصعدة، خاصةفي ظل التدهور الاقتصادي والفقر المدقع الذي يعانون منه. لعل أبرز صورة لهذا التهميش هي مشاهدالنساء والأطفال الذين يظهرون في مقاطع الفيديو يتقاتلون على بقايا الطعام، وهو ما يعكس عمق الأزمةالاقتصادية والاجتماعية في المنطقة. هذه المقاطع، التي انتشرت في وسائل الإعلام الاجتماعي، تؤكدحقيقة الوضع المأساوي الذي يعيشونه بسبب السياسات التي تتبعها “قسد“، مما يجعل المجتمع الدولييتساءل عن دور “قسد” في هذه الأوضاع المتدهورة.
الحسكة بين الماضي والمستقبل: التمثيل، العدالة، الحرية
لم يكن تهميش الحسكة مجرد صدفة أو سوء إدارة، بل كان سياسة ممنهجة هدفها إبقاؤها خارجالحسابات السياسية والاقتصادية. ومع استمرار هذا التهميش حتى بعد الثورة، يصبح السؤال الأهم: متى ستحصل الحسكة على حقوقها في التمثيل العادل والعدالة والحرية؟
إن تحرير الحسكة لا يعني فقط إنهاء سيطرة “قسد” أو طرد ضباط النظام منها، بل يعني إعادة الحقوقلأهلها، ووقف استنزاف ثرواتها، وتمكين كفاءاتها من قيادة مستقبلها. حتى يتحقق ذلك، ستظل الحسكةنموذجًا صارخًا للمظلومية المستمرة، وساحةً للنضال من أجل الحرية والعدالة، التي لطالما حُرمت منها رغمدورها المحوري في سوريا.