اجتماعيةثقافة ومجتمعشخصيات وأعلاممقالات

الشهيد محمد مهذب حفاف

ولد الشهيد “محمد مهذب حفاف” في قرية القواسم التابعة لمدينة غريان مركز الجبل الغربي عام 1947م، وأنهى تعليمه الابتدائي والإعدادي، في القرية نفسها، ثم تحصل على الشهادة الثانوية من مدرسة “غريان” الثانوية عام 1968م، فالتحق بكلية الهندسة، قسم الهندسة الميكانيكية، بالجامعة الليبية بطرابلس.

اعتُقل في عام 1973م وهو في السنة الأخيرة بكلية الهندسة جامعة طرابلس، عقب خطاب “القذافي” في مدينة زوارة والذي عُرف (بخطاب زوارة) الذي عقبته موجة اعتقالات واسعة طالت المثقفين والسياسيين والمتعلمين وطلاب المدارس والجامعات، وتمخض عنه ما سُمي بـ “الثورة الثقافية” التي تجسدت في منع وإحراق ومصادرة الكتب والمكتبات، ومنع الفكر والتفكير والإبداع، بالإضافة إلى إعلان الأحكام العرفية ونشر الفوضى التي عاشتها ليبيا حتى اندلاع ثورة (17 فبراير 2011).

دخل الشهيد محمد حفاف في نقاش فكري مع ما يعرف حينها بعضوي “مجلس قيادة الثورة” وهما الرائد “بشير هوادي” والرائد “عمر المحيشي” في الندوة التي عُرفت بـ”ندوة الفكر الثوري” التي عُقدت في مايو 1970م، ثم ما لبث أن واجه “معمر القذافي” قائد انقلاب سبتمبر العسكري، وهذا الأسلوب الخبيث الذي انتهجه القذافي ومعاونوه للكشف عن خلفيات شباب الجامعات السياسية والثقافية للقبض عليهم والتخلص منهم بالسجن تارة وبالإعدامات تارات أخرى، لكونهم يشكلون خطرًا على نظام الدبابة القمعي – وهذا الأسلوب ظل مستمرًا سنوات طويلة من خلال فتح حلقات نقاش للطلاب الجدد في الجامعات، الذي عرف “بالأسبوع الثقافي” تحت رعاية مكتب الاتصال باللجان الثورية – وخاصة من يتمتع بذكاء وبعد نظر وفهم دقيق للساحة السياسية في ليبيا والعالم الإسلامي، وهذا ما سلط الضوء والتركيز على ذلك الطالب النبيه العميق الفكر القوي الحجة المالك لناصية البيان، صاحب الحجة في الإقناع، والدامغ لسفاسف ما يطرحه رجال الانقلاب العسكري.

اُعتقل الطالب محمد حفاف، وأودع السجن، وعُذب هو وكل المعتقلين الذين اعتُقلوا معه، عذابا شديدا تشيب منه رؤوس الولدان، ثم حُولوا على غرفة الاتهام التي أطلقت سراحهم لعدم وجود تهمة من حيث الأصل؛ لكن هذا لم يُعجب القذافي ولم يُرضي نزوته وحبه للقتل، الذي شتم القضاء قائلا: “لابد أن تُرجعوهم”، فأعيدوا إلى السجن في اليوم نفسه الذي أطلق فيه سراحهم، وحُولوا على “محكمة الشعب” التي نظرت في القضية بعد عشرة أشهر، وحكمت على الشهيد بالسجن لمدة “خمسة عشر عاما” لكن هذا الحكم لم يرضِ أيضا غرور العقيد القذافي فتغير الحكم السابق بقدرة قادر من (15 عاما) إلى السجن المؤبد. ثم استُبدل الحكم بأمر الآمر بأحكام نزواته إلى الإعدام!!!

 وفعلا أُعدم الشهيد “محمد حفاف” شنقًا، في ساحة كلية الهندسة كليته التي كان يدرس فيها ويتلقى علوم الهندسة فحولها القذافي إلى ساحة إعدامات لطلابها المميزين، وفي حفل دموي صاخب اختلطت فيه قسوة الجوقة بشغفها بالرقص على جثث ضحاياها من الشهداء. صورت النفسية المريضة لكل من كان له ضلع في هذا الأمر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

 أعدم الشهيد، قاب قوسين أو أدنى من مكتبة الجامعة وفصولها ومعاملها، التي كان يدرس بها، بينما كان طلبة وطالبات الجامعة والمدارس الثانوية الذين جيء بهم قسرا من قاعاتهم الدراسية ومن مدارسهم لمشاهدة هذا المشهد الرهيب ليكون درسًا لكل من تسوّل له نفسه مجرد الاختلاف مع هذا النظام، وقد ارتسمت على وجوههم نظرات الحيرة والذهول والغضب؛ بل سقط بعضهم مغشيًا عليه من أثر الصدمة وهول الموقف غير المتوقع ولم يخطر على بال.

نُفذ حكم الإعدام في الشهيد ” محمد حفاف ” بعد مضيه في السجن عشر سنوات من الاعتقال أمضاها تحت التعذيب والترهيب والمساومات من أجل كسر إرادته لأجل أن يتخلى عن مبادئه، لكن هذه الإرادة فاقت رغبات الطغاة وتصوراتهم، فلم يثنه العذاب، ليضرب أروع الأمثلة للمناضلين وللأجيال القادمة على الثبات على القيم والمبادئ السامية التي آمن بها وعاش من أجلها، ودفع حياته ثمنًا لها.

  كان الشهيد محمد حفاف، وبشهادة جميع من عرفه، رجلا صالحا، طيب المعشر، دمث الأخلاق، ملتزما بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وملتزما بقيم الإسلام فكرا وعقيدة وأخلاقا، وكان كريما عفيفا نشيطا، وكان يُلقي المحاضرات ويُنظم الحلقات والندوات، ويساهم في جوانب ثقافية واجتماعية وفكرية عديدة، وكان بجانب كل هذه الصفات الحميدة، متفوقا في دراسته؛ لقد كان المواطن الليبي “محمد مهذب حفاف”، وبكل اختصار، أُمة في حد ذاته.

انتقل الطالب محمد حفاف إلى مدينة طرابلس، بعد تخرجه من المرحلة الثانوية، والتحق بكلية الهندسة عام 1971م. وتعرف على أغلب أطياف التيار الإسلامي، فانضمّ إلى الإخوان المسلمين، لكنه لم يستمر طويلا، فحاول أن يؤسس تنظيمًا تحت اسم: “الحزب الوطني”، لكنه تراجع عن الفكرة بعد أن وجد صعوبة في وضع برنامج متكامل لهذا التنظيم، ثم انضم الشهيد إلى حزب التحرير، وكان الشهيد على علاقة طيبة مع جميع التيارات الفكرية والسياسية، كما كان على علاقة طيبة مع جميع القيادات الإسلامية الموجودة على الساحة الليبية.

اعتُقل في أبريل 1973م،ولم يتزوج الشهيد، ولم تسلم جثته إلى أهله، ولم يعرف مكان دفنه حتى الآن؛ بل أنكر النظام في البداية وجود سجين بهذا الاسم أصلا، حيث خاطب أهل الشهيد بقولته المعتادة: “ليس لديكم ولد في السجن”، ثم عاد النظام بعد ذلك، فاعترف بجريمته، ولكن دون أن يسلم الجثة إلى أهلها.

ويتحدث صديق عرف الشهيد عن قرب، فيقول:

كان الشهيد طويلا.. أسمر اللون.. دمث الأخلاق.. مهذبا (اسم على مسمى).. جادا.. أنيقا.. ومتواضعا.. وكانت البسمة لا تفارق ثغره.. وكان صداعا بالحق.. جريئًا.. وخاصة في المواقف التي تتطلب الجرأة.. والشجاعة.. وكان عنيدا في الحق.. لا يداهن.. ولا يهادن.. ولا يخشى في الله لومة لائم، وكان “معمر” يحقد عليه حقدا شديدا، وكانت الفكرة الإسلامية متجسدة فيه قولا وعملا. وكان يصلي بالناس في الجامعة، وينظم حلقات القرآن والدروس الأسبوعية.

 

 جاء في مجلة “العودة” التي كانت تصدرها وحدة “الشهيد” التابعة لفرع الاتحاد العام لطلبة ليبيا، فتقول: 

 

… والشهيد محمد حفاف كان في إمكانه الخروج من السجن عندما عرض عليه بيع كرامته، ولكنه اختار طريق الشهداء والصالحين. ولعل بعضكم يذكر ذلك الموقف الذي يسجله التاريخ للشهيد حفاف، يوم أن وقف ناصبًا عوده الرقيق، في عزة وكبرياء وشموخ، عندما هدده الطاغية معمر بأنه سيبقيه في السجن مدى الحياة، فما كان من الشهيد إلا أن ردد قائلا بقوة وصدق وإيمان: “إن ذلك في حد ذاته فخر وشرف لي”.

لقد رحل الشهيد محمد حفاف عن دنيانا.. لكنه.. لم يرحل دون أن يترك مدرسة.. علمتنا معنى الصمود.. والكبرياء.. والشموخ.. في وجوه الذين يريدون أن يُنصبوا أنفسهم آلهة على هذه الأرض.. من دون الله.. والذين يريدون أن يقولوا للناس.. لا نريكم إلا ما نرى.. ولا نهديكم إلا سبيل الرشاد.. والذين يريدون أن يقولوا لعباد الله.. لا نعلم لكم من إله غيرنا. مدرسة.. تركها الشهيد.. علمت هامان وقارون والنمرود وفراعين هذا العصر أن “لا إله إلا الله.. وأن محمدًا رسول الله”. وأن المبادئ والقيم لا تموت بل تبقى بعد رحيل من يحملونها مشاعل تُنير الطريق للأجيال القادمة التي تؤمن بها وتجعل من أمثال الشهيد محمد حفاف مثالا وقدوة.

 رحم الله الشهيد محمد حفاف وأسكنه فسيح جناته

 هذه المقالة: اعتمدت على كتاب “أوسمة على جبين الوطن” للدكتور فتحي الفاضلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى