القراءة الجماعية للقرآن الكريم.. دواعيها وما قيل فيها؟؟
القراءة الجماعية للقرآن الكريم.. دواعيها وما قيل فيها؟؟
د. أحمد الريسوني
قراءة القرآن الكريم عبادة من أجَلِّ العبادات المطْلقة غير المقيَّدة. وهي تعدُّ عبادة بمجرد التلاوة، حتى لو كانت بدون فهم ولا تدبر. فمجرد تلاوة القرآن عبادة جليلة راقية، ثم تترقى أكثر بقدر ما ينضاف إليها من التفهم والتدبر والعمل..
وقد اعتاد العلماء – عند تعريفهم للقرآن الكريم – التنصيصَ على أنه “المتعبَّد بتلاوته”.
ومعلوم أن القرآن الكريم: هدى ونور، وشفاء لما في الصدور، ومصدر علمي، ومرشد فكري، ودليل أصولي، ودستور عملي، ومرجع لغوي. وفي تلاوته ذكر ودعاء واتصال بالله تعالى. وكما قال الشاطبي: “إن الكتاب قد تقرر أن كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه، لأنه معلوم من دين الأمة” – (الموافقات3/ 346).
وهذا يقتضي أن تكون تلاوة القرآن مفتوحة دائمة. ولكي تكون كذلك، تحتاج أن تكون ميسرة.. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، وهي آية تكررت في القرآن بلفظها أربع مرات..
قال ابن الجوزي في (زاد المسير): “ولقد يسرنا القرآن: أي سهلناه للذكر، أي للحفظ والقراءة. فهل من مدَّكر: أي من ذاكر يذكره ويقرؤه. والمعنى: هو الحث على قراءته وتعلمه”.
والقرآن سمي قرآنا لكونه جُعل مقروءا، ولكونه نُــزِّل ليُقرأ. فلا يوجد أبدا – وعلى مدى التاريخ كله – كتاب يُقرأ كما يُقرأ القرآن، ويُـحفظ كما يحفظ القرآن. والحفظ قراءة، لكونه لا يتم إلا بالقراءة مرات ومرات. وكذلك بقاؤه ودوامه..
وقد أثنى الله عز وجل على أهل التلاوة، وشهد لهم بالإيمان فقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]
ومعلوم أن مداومة التلاوة تؤدي إلى الفهم، والتلاوةُ والفهمُ يؤديان إلى العمل. فالتلاوة وإن كان لها فضلها وثوابها حتى بدون فهم ولا عمل، فإنها غالبا تؤدي إلى فهم وعمل، ولو بعد حين.
فلأجل هذا كله كانت قراءة القرآن مطلوبة في كل وقت وحين، وفي كل حال ومكان؛ مطلوبة من النساء والرجال، ومن الصغار والكبار، ومن الخاصة والعامة، جميعا أو أشتاتا.
والإسلامُ يكون منتشرا ومزدهرا، بقدر ما يكون القرآن متلوا ومحفوظا.
القراءة الجماعية للقرآن وما قيل فيها
نُقل التحفظ على القراءة الجماعية الموحَّدة وكراهتُها عن الإمام مالك رحمه الله. وحجة الإمام وغيره من المنكرين للقراءة الجماعية، هي أنها لم تكن في العصر الأول، وأنها لو كانت مشروعة لعمل بها الأولون. ويضيف بعض المعترضين بأن قراءة القرآن عبادة، والعبادات أحكامها توقيفية لا اجتهاد فيها.
ونقل الإمام الشاطبي في (الموافقات): “سئل مالك عن القراءة في المسجد فقال: لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أُحدث. قال: ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن. وقال أيضا: أترى الناس اليوم أرغبَ في الخير ممن مضى؟ قال ابن رشد: التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات، أو على وجه ما مخصوص، حتى يصير ذلك كأنه سنة، مثل ما بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح؟ فرأى ذلك بدعة. قال: وأما القراءة على غير هذا الوجه، فلا بأس بها في المسجد، ولا وجه لكراهيتها. والذي أشار إليه مالك هو الذي صرح به في موضع آخر؛ فإنه قال في القوم يجتمعون جميعا فيقرؤون في السورة الواحدة، مثل ما يفعل أهل الإسكندرية، فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس”.
وبيان هذه الاستشكالات فيما يلي:
1. إمامنا، الإمامُ مالك بن أنس، كان صارما في نفوره واتقائه للبدع والمحْدَثات، وحق له ذلك بالنظر إلى زمانه ومكانه ومكانته؛ فقد عاش في الزمن المثالي والمكان النموذجي، وكان يحب المحافظة على هذا الوضع وهذا الإرث بكل تفاصيله، وخاصة في العبادات وما يندرج فيها.. لكن تشدده رحمه الله وصل في بعض الأمور إلى درجة لم يسايره فيها حتى أتباعه، كما في رفضه المطلق تقديم الزكاة عن وقت وجوبها، فجعَلَها كالصلاة تماما؛ لا تجوز قبل دخول وقتها، ولو بقليل.
وفقهاء المذاهب عادة هم أشد الناس تعظيما واحتراما لأئمة مذاهبهم، ولكنهم لا يجعلون الإمام كأنه نبي لا تجوز مخالفته بحال من الأحوال. بل نجد أقوالا للإمام لم تُعتمد منذ البداية، أو اعتمدت ثم تجاوزها الاجتهاد بعد تغير الأحوال ومناطات الأحكام. والإمام – أيُّ إمام – إنما يكون إماما بمنهجه ونزاهته، وبقواعده ومجمل فقهه، لا بكل فرع من فروعه، وكلِّ قول من أقواله..
وفي مسألتنا (القراءة الجماعية)، استقر العمل عند المالكية، ووقع ما يشبه الإجماع منهم، على تجاوز ما نُقل عن الإمام مالك رحمه الله، وصارت القراءة الجماعية الراتبة للقرآن مزية بارزة في عموم بلدان المغرب والأندلس. وإنَّ تجاوز فقهاء المذهب لرأي الإمام – ولا أحد منهم يحب هذا التجاوز – لَدليلٌ على قوة اقتناعهم بمشروعية القراءة الجماعية وأهميتها وضرورة الأخذ بها.
2. قراءة القرآن من العبادات المطْلَقة، وليست عبادة مقيدة (كالصلاة والزكاة والصوم والحج). والاجتهادُ في تنزيل العبادات المطْلَقة واسع وكثير جدا. ومن أمثلته: منحُ أجورٍ ورواتبَ مشروطةٍ ومتفق عليها، لمن يُعلِّمون الناس ويُـحَفِّظونهم القرآن الكريم، وكذلك الأجرة لتعليم العلوم الشرعية، من عقيدة وفقه وغيرهما..
“وقد أفتى متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه. قال في الدرر وشرحه: ويُفتى اليوم بصحتها، أي الإجارة لتعليم القرآن والفقه، والأصل أن الإجارة لا تجوز عندنا على الطاعات والمعاصي، لكن لما وقع الفتور في الأمور الدينية جوزها المتأخرون اهـ.” – (عن التحرير والتنوير لابن عاشور 1/ 452)
3. العبادات المقيَّدة نفسها (الصلاة والزكاة والصوم والحج) وقعت فيها اجتهادات عديدة؛ في نوازلها ووسائلها ونوافلها. وبعضُ تلك الاجتهادات وقعت واعتُمدت منذ عصر الصحابة والخلفاءِ الراشدين (كالتراويح الراتبة، وإحداث مواقيت مكانية جديدة للحجاج، لم يُنصَّ عليها في الحديث النبوي الذي حدد المواقيت، وكتوقيف سهم المؤلفة قلوبهم، وكالأذان الثاني لصلاة الجمعة، وترك إخراج زكاة الأموال الباطنة لأمانات أصحابها).
4. وبخصوص قراءة القرآن التي هي موضوعنا الآن، نجد اليوم مـحْدَثات ومستجدات لا تكاد تتوقف.. وأعني بذلك استعمالَ الوسائل الحديثة في حفظ القرآن وتلاوته وسماعه.. وقد أصبح من المألوف أن نرى الناس يقرؤون القرآن أو يستمعون إليه، على هواتفهم. وبعضهم يصلون التراويح بالقراءة من هواتفهم..
ولم نسمع من يتحدث عن هذه “البدع”. أو يفتي بمنعها أو كراهتها.
5. ومما يؤخذ على القراءة الجماعية، ويُعترض به عليها، وقوعُ أصحابها في بعض الهفوات: في الوقف والابتداء، وفي قواعد التجويد والنطق السليم عموما..
وهذا صحيح، ولكن تلك الهفوات إن لم تكن قابلة للتغاضي، فهي قابلة للتنبيه والتصحيح. وهي على كل حال تقع في القراءة الفردية، كما تقع في القراءة الجماعية.
6. ومن المعلوم المجرَّب أن الأداء الجماعي لأي عمل، ديني أو دنيوي، يعطيه تشجيعا وشيوعا وانتظاما، مع أنه ليس عندنا نص شرعي يمنع القراءة الجماعية ويجعل فوائدها من “المصالح الملغاة”. فلا يليق – والحالة هذه – أن نحكم ببطلانها وقطعها، فنقطع بذلك نفعا عظيما تصيب بركاته مجمل الأمة وعموم المسلمين..
7. وعلى سبيل المثال: لو دُعيَ عامة المسلمين – رجالا ونساء – إلى مزيد من الاجتماع اليومي حول قراءة القرآن، ولو دعي أرباب البيوت والأُسر إلى عقد حلقات أُسرية يومية للقراءة الجماعية للقرآن الكريم، لكان لنا شأن أي شأن.. ولكُــنَّا أكثر تجسيدا وتحصيلا لما جاء في الحديث الصحيح: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).