المقاطعة الاقتصادية خلق وسلوك
د. سالم بوحنك
يتحرك الإنسان في عالمه الصغير والكبير ضمن عاملين مهمين؛ الحاجة والقناعة، وهذا واضح من خلال المتابعة العامة لسلوك معظم الكائنات، فالحاجة تدعو كل كائن حي إلى أن يعمل لتوفير حاجته وإشباعها، وهذه الحاجات سواء كانت مادية أو معنوية لها القوة التي تدفع الإنسان إلى العمل على توفيرها، وبطبيعة الحال تتفاوت القوة في طلبها حسب قوة الحاجة إليها، ومع ذلك نجد بعض الناس يضحون باحتياجاتهم الضرورية أحيانا من أجل عامل آخر، وهو القناعة أو الإيمان، فيضحي المسلم بنفسه وماله من أجل إيمانه بعقد البيع مع الله، وينفق ما في يده في سبيل الله ثقة بما عند الله، وحتى على المستوى البشري فقد يحرم الوالد نفسه مما تشتهي وتحتاج في سبيل توفير حاجات أبنائه، وتوفير متطلباتهم.
تنبع القناعة أو الإيمان بقضية ما من أهميتها وضرورتها بالنسبة إلى الإنسان، فلا يمكن أن يضحي بالأهم من أجل الأقل أهمية أو بالأعلى من أجل الأدنى، ولذلك قالوا همُّك ما أَهمَّك، فما كان مهما في نظرك هو الذي ستوليه اهتماما، ولذلك تضحِّي من أجله بما هو أدنى منه أهمية، ومن هنا نفهم قوله تعالى في وصف أهل الإيمان: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة}، فهم يعطون القليل الفاني من أجل الكثير الباقي، ويعلمون يقينا أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف الله لمن يشاء، وهذا دلالة حقيقية على تصديقهم بوعد الله، وثقة بما عنده.
وقد تتكون القناعة من مجموع التجارب التي مر بها الإنسان في حياته، أو ما حكاه السابقون من تجاربهم، والعاقل من اتعظ بغيره، واستفاد من تجاربه، فتتكون القناعة بالموضوع، ويوليه اهتماما يليق به.
في جميع الأحوال التدافع الذي يقع بين هذين العاملين يترتب عليه القرار المتخذ، وشُرع في تنفيذه، وربما هذا ما يعرف بدوافع السلوك لدى الإنسان، ويحدث سوء التقدير لسلوك أي شخص من سوء فهم لدوافعه وقناعاته التي بنى عليها قراره وسلوكه.
نأتي الآن لموضوع المقاطعة، فبالنظر إلى ما يحدث الآن في العالم من دعم عديد الشركات والمؤسسات العالمية للعدو المحتل للأراضي المقدسة، وكذلك إذا أخذنا في الاعتبار أهمية الجانب الاقتصادي والتسويقي لهذه الشركات والمؤسسات العالمية، وأن أي مقاطعة لمنتجاتها تؤثر سلبا وبقوة في اسمها وأسهمها في السوق العالمية، مما يترتب عليه من خسائر كبيرة تقدر بمليارات الدولارات، فإننا إذا أخذنا هذا في الاعتبار، فإن الواجب الشرعي يقتضي منا أن نقاطع هذه المنتجات نصرة لإخواننا في غزة وفلسطين، وقد يقول قائل إن المقاطعة لا تأثير لها، وهل مقاطعتي في ظل عدم مشاركة الجميع فيها لها تأثير، فيجاب عن ذلك بأمرين اثنين:
الأول: هو واجب شرعي ستحاسب عليه بين يدي الله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وخاصة إذا ثبت الضرر الذي سيلحق بالمسلمين جراء هذا التعامل، فهو بهذا الشكل أمر تعبدي سيحاسب كل امرئ عليه، ولن يسأل عن غيره، والمقاطعة الاقتصادية مشروعة في الكتاب والسنة، قال الله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ)، وفي الصحيحين، خبر مقاطعة ثُمَامَةَ بْن أُثَالٍ رضي الله عنه عند إسلامه لقريش فقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله ﷺ ففي هذين النصين دلالة على مشروعية أن يقوم مسؤول أو شخص ذو نفوذ وتأثير اقتصادي أو من عموم الناس، بفرض مقاطعة اقتصادية على جهة معتدية أو مسيئة لردعها أو لدفع وتخفيف المعاناة عن المضطهدين.
كما تعد المقاطعة الاقتصادية من المصالح المرسلة التي تجلب نفعا للمسلمين، وتدفع الضرر عنهم من قبل جهة معتدية أو داعمة لها لردعها عن ذلك، بسبب مقاطعتها وتأثير ذلك فيها، وقد أثبت فاعليتها سابقا، فقد أدت مقاطعة الدول العربية في السنوات السابقة للشركات الداعمة للكيان الصهيوني إلى إعلان شركات أمريكية وأوروبية انخفاض عائدات البيع بنسبة تصل إلى 35%، بسبب المقاطعة العربية لها. ولذلك اتفق الفقهاء على ترك التعامل التجاري مع كل ما يتقوى به العدو أو من يدعمه على المسلمين، كما أفتى العلماء المعاصرون بوجوب فعل كل ما يضعف المعتدين على المسلمين، ومنها إضعاف قدراتهم الاقتصادية بمقاطعة منتجاتهم وسلعهم، وهو من باب المجاهدة بالمال.
الثاني: من الناحية النفسية والاجتماعية، كيف يقبل المسلم على نفسه أن يتصور أنه يسهم بماله في قتل نفس بريئة، فضلا عن كونها مسلمة، وذلك إذا تصورنا أن الدرهم الذي دفعته ثمنا لتلك البضاعة أو الخدمة تسهم في صنع رصاصة أو مدفع أو طائرة يقتل بها الأبرياء، لا شك أن هذه الصورة ممقوتة من كل ذي شعور بالإنسانية فضلا عن المسلم وما يطلبه منه دينه، وها نحن نرى أن كثيرا من غير المسلمين مثل طلبة الجامعات طالبوا بإيقاف الاستثمار الذي تقيمه جامعاتهم مع جامعات ومؤسسات الكيان المحتل، وهم ليسوا مسلمين، ولكن حرَّكتهم مشاعرهم الإنسانية، نصرة للمظلومين والأبرياء.
استشعار أهمية هذا العمل واليقين بفائدته لن تكون إلا إذا تكونت قناعة بناء على دراسات واقعية وأخبار مؤكدة من ذوي الاختصاص تفيد بهذه النتيجة، وهذا بالضرورة يتطلب منا متابعة السوق المالية وسوق تداول الأوراق المالية، ومعرفة ما يحدث من ردود فعل لهذه المقاطعة، كما أن الاطلاع على الدراسات المتعددة سواء الغربية أو العربية ستؤكد لنا المعلومة فمثلا يشير دليل المناصرة الفعالة الصادر عن صندوق أدوات المجتمع بجامعة كنساس إلى دراسة استقصائية أُجريت عام 1991 في المملكة المتحدة، كشفت عن أن قادة الأعمال عدوا المقاطعة أكثر فاعلية من حملات الضغط أو الدعاوى الجماعية في إقناعهم بتعديل ممارساتهم. وفي دراسة أجراها برايدن كينج من قسم الإدارة والمنظمات في كلية كيلوغ للإدارة (Kellogg)، كشفت النتائج عن أن الشركات التي شهدت انخفاضا في السمعة العامة كانت أكثر تضررا من تلك التي شهدت انخفاضا في مبيعاتها، وأنه كلما زاد اهتمام وسائل الإعلام بالمقاطعة ازدادت فاعليتها. ووفقا لسيزار تشافيز، الذي قاد حركة المقاطعة ضد مزارعي العنب في كاليفورنيا في ستينيات القرن الماضي، تحتاج المقاطعة إلى إقناع نحو 5% من المستهلكين بالانخراط في المقاطعة المنظمة لإحداث تأثير مادي ملموس، أما إذا بلغت النسبة 10% من المستهلكين فذلك قد يؤدي إلى تأثير مدمر.
من الضروري أن يقوم أهل الاختصاص في مجالات الاقتصاد والقانون والشريعة بدورهم في توعية الجمهور بجدوى هذه الوسيلة وأهميتها، ولابد أن تتضافر الجهود لإحداث هذه التوعية النوعية الفاعلة حتى تؤدي إلى النتيجة المطلوبة.