عاممقالاتمقالات تربوية

الهجرة في سبيل الله سعة

قد يشعر المرء وهو يسير في طريق الإصلاح وصناعة الخير بكثير من الضيق والأسى حين تعترضه المصاعب والعواقب وتحيط به الخيبات، أو تثقل كاهله المظالم، أو حين يدرك حجم تأثير ما وقع فيه من تقديرات خاطئة واختيارات مجانبة للصواب على حياته ورسالته فيها، وقد يصل به الإحباط للتحول إلى كتلة من السلبية يسجن فيها نفسه، حتى لا يكون ثمة من قيد له سوى السجن الذي بنى حيطانه حول نفسه بنفسه.
غير أن الله سبحانه جعل للمؤمن مخارج كثيرة من هذه الحالة المدمرة، يحوّل بها هذا الضيق الى سعة، ومنها الهجرة في سبيل الله وفق قوله سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)). ومعنى الآية كما بيّنه المفسرون، أن الله يهب المهاجر أنواعا من التأييد بما يتحصن به وما يراغم به الأعداء، ويبسط له ويوسع له في الرزق.
والهجرة تكون لأسباب كثيرة، بالقلب والفكر وبالجسد.
– أما الهجرة بالقلب، أن يهجر المؤمن النوايا السيئةَ والمقاصد السفليةَ، وأن يغادر بقلبه سفساف الأمور ، ودرن الآفات الدفينة ويسافر بفؤاده نحو السماء إلى معالي الهمم، وعزائم الأمور الرفيعة.
– وأما الهجرة بالفكر أن يترك المرء بفكره البيئة السلبية التي تفسد دينه وتكون خطرا على أخلاقه، والمعيقة لتطوره ومواصلة طريقه، فيقطع صلته عقليا بالأجواء الفاسدة التي لا يستطيع تغييرها في الحين، والتي يعسُر عليه في الآن إمضاء الخير الذي يرومه فيها، وينتقل إلى التفكير في الأعمال الصالحة ومشاريع الإصلاح التي لا تحكمها البيئات المنحطة أبدا، ويتحرر من قيود الحاضر بأن يطلق العنان لخياله لكي يرحل إلى مستقبل مشرق يرسمه في ذهنه فيذهب إليه مسرعا غير ملتفت إلى الخلف حيث البيئات المضللة.
– وأما الهجرة بالجسد فهي أن يغادر المسلم المكان الذي تغلبه فيه نفسه، حيث تجرّه نزواته إلى المهالك، أو حيث دواعي العجز والكسل، أو آثار الآثام والظنون والهواجس التي تمنعه، أو تعطله، عن العمل الصالح للارتقاء بنفسه ومجتمعه إلى مدارج الخير والبر والرضوان.
وهذا ما يؤكده الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو : ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ‏))، وكلما كانت الظروف صعبة والبيئة فاتنة وثمن الالتزام كبيرا، كان الثبات على الدين بمثابة الهجرة المتجددة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما بيّنه الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن معقِل بن يسار عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: ((الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ))
وقد تكون الهجرة انتقال دائم أو مؤقت لسبب البحث عن فضاءات أرحب وفرص أفضل، يُقدَّرُ فيها مقامُك ومقدراتك، وتحصل فيها على أدوات أنسب لتطور ذاتك، وتجسيد رسالتك والاقتراب أكثر من رؤيتك.
وقد تكون الهجرة بسب المنع والتضييق أو الملاحقة والاضطهاد، لا لشيء إلا لأنك تؤمن بالله، أو لأنك تدعو إلى الله، أو لأنك تريد أن تخدم بلدك في سبيل الله، لتحرره من الفساد والاستبداد، ولتجعل أهله ينعمون بالحرية والكرامة والعيش الرغيد.
يكون الانتقال والهجرة بالجسد من مكان الى مكان آخر، قريب أو بعيد، من حي إلى حي، أو من قرية إلى إلى قرية، أو من مدينة إلى أخرى، أو من بلدك إلى بلد آخر، بعيد أو قريب، لا يهم في ذلك إلا البيئة التي تساعدك على حفظ نفسك وأسرتك وخدمة دينك وأمّتك، ولا معيار للهجرة التي يجزل بها الله تعالى الأجر والثواب إلا أن تكون في سبيل الله كما جاء في الحديث الصحيح المشهور : (( إِنَمَا الأَعْمَالُ بِالنِيَاتِ))، وأن تبقى في سبيل الله، مبررة دوما بالمقاصد النبيلة، لا تغامر فيها بدينك وأخلاقك ومروءتك، مهما كان المجال الذي ستشتغل فيه ومهما كانت الوجهة التي تقصدها.
إن من أهم الدروس التي نستلهمها من الهجرة النبوية أن أصحاب الرسالات لا يجب أن يتوقفوا عن العمل لرسالتهم ورؤيتهم مهما كانت الصعوبات والتحديات والخيبات، ومهما كان الصد الخفي والعلني، والمباشر وغير المباشر، ومهما كانت صلابة وضخامة القوى المضادة، فالمجتمع فسيح وأرض الله واسعة،(( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا))
وقد تكون الهجرة جزئية إلى بلد غير معادٍ يتم فيها انتقال جزء ممن أرهقهم الأذى أو ممن يجب حمايتهم لأهميتهم أو لأهمية ما يحملونه من خصائص تحتاجه الجماعة الساعية للتغيير، أو لصناعة منصة خارجية للدعوة إلى الله ولنشر الفكرة ضمن رؤية حضارية مستقبلية، كما حدث في الهجرة الأولى الى الحبشة.
أو تكون الهجرة كلية، بخروج الجماعة الساعية للتغيير كلها حين تصبح أرض النشأة مستعصية بالمجمل على التغيير، للتحول إلى بلدة أو بلاد أخرى مرحبة ومستعدة لقبول الفكرة الجديدة وحمايتها والتضحية من أجلها، كما حدث في الهجرة النبوية التي نحتفل بها كل سنة في الأول من محرم، ثم تكون العودة إلى البلاد التي بزغت فيها الفكرة بعد أن تمكنت في بلاد أخرى هاجرت إليها، أو استُكملت فيها العدة النفسية والفكرية وهُيِئت الأسبابُ للرجوع إلى بلد المنبع.
لا هجرة بعد فتح مكة، من مكة إلى المدينة، وفق ما ورد في الصحيحين من حديث عائشة، ومن حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: ((لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا))، ولكن الهجرة تبقى عملا صالحا إلى يوم القيامة وفق ما جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن أبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَى تَنْقَطِعَ التَوبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَوَبَةُ حَتَى تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرَبِهَا))، وذلك إذا أضطر المسلم إلى ترك الإقامة في بلاد غير المسلمين إذا خشي على دينه، ودين أبنائه وعائلته، ليقيم حيث يستطيع المحافظة على عقيدته والالتزام بواجباته الدينية هو ومن هم تحت مسؤوليته، أو إذا هاجر إلى بلاد أخرى، مسلمة أو لغير المسلمين، إذا ارتبطت هجرته بنية خالصة لوجه الله تعالى، أو من أجل أعمال مفيدة للنفس والأهل أو للوطن أو الأمة أو من أجل القضية الفلسطينية أو دفاعا عن أي قضية مقدسة أو عادلة.
بل إن الهجرة تبقى دوما واجبة من حيث هجر أذيّة المؤذين وسوء المسيئين والصبر عليهم حين لا يكون تغيير مناكرهم ممكنا ولا تزيد رفقتهم إلا منقصة في التدين والأخلاق كما بين الله تعالى (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا- 10)) المزمل.
وتكون الهجرة كذلك واجبة في كل وقت من أجل المحافظة على الدين وحفظ النفس والأهل من بطش الظالمين والاستضعاف في الأرض لمن قدر عليها ووجد طريقها وملك وسائل الحياة الكريمة الحرة عبرها في بلاد أخرى، إلا من عجز فإن الله تعالى يرحمه ولا يؤاخذه، وذلك ما قصدته الآية الكريمة في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا- 98-99)) النساء.
لقد جعل الله الهجرة من أعظم الأعمال الصالحة وامتدحها في كتابه العزيز، ما تعلق منها بالهجرة الى النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في المدينة حين خرج من مكة مهاجرا إليها، كما جاء عنها في العديد من الآيات التي ربطها سبحانه بالإيمان والجهاد ومنها قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيم))، وما عظُم أمر المهاجرين إلا لما حققوه من تحول تاريخي عظيم بدأ معه عدّ قيام أمة الإسلام ودولة الإسلام وحضارة المسلمين وقد أعطوا في سبيل ذلك كل ما يملكون، وما نحن المسلمين جميعا إلا حسنات جاريات في رصيدهم رضي الله عنهم أجمعين وعلى مصدر الخير فيهم سيدنا محمد أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
أو ما تعلق منها بهجرة الذنوب والمعاصي، حيث عدها رسول الله أفضل الإيمان، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن عمرو بن عبسة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ….قال: فَأَيُ الإِيمَانِ أَفْضَلْ؟ قال: ((الهِجْرَةُ))، قال: فَمَا الهِجْرَة؟ قال: ((تَهجُر السُوءَ))..))
أو ما تعلق بهجرة الأوطان لحفظ الدين، وتجنبًا للظلم والبطش والعدوان، كما وقع في عصرنا للعديد من المسلمين الذين تم تهجيرهم بسبب الفتن والحروب أو الذين تم التنكيل بهم من قبل الأنظمة الاستبدادية أو المليشيات الإجرامية، في مصر وسوريا والعراق واليمن ونحو ذلك كما بين الله تعالى في محكم التنزيل: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ – 41))النحل
أو ما تعلق بأي غاية نبيلة تدخل فيها نية صالحة، ويُحفظ فيها الدين والعرض والخلق، كطلب العلم كما جاء في صحيح أبي داود عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ))، أو الضرب في الأرض وراء الرزق كما جاء في الآية: ((هُوَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُشُور – 15)) الملك، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البيهقي مرفوعا عن ابن عباس: ((سَافِرُوا تَصِحُوا وَتَغْنَمُوا)).
إن في الهجرة خير كثير حين تكون واجبة لحفظ الدين أو النفس أو العرض، وحينما تكون مباحة لمصلحة عامة نبيلة في أي مجال من المجالات أو لمصلحة خاصة مما يتقوى به المؤمن الصالح في ما لا تتاح له الفرصة في بلده، لعلم أو خبرة أو رزق، وفق قول المصطفى في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: ((المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ)).
فالهجرة بهذه المعاني خير كله وفق ما جاء في الحديث الذي رواه النسائي وصححه الألباني، عن كَثير بن مُرَّة أن أبا فاطمة حدَّثه، أنه قال: يا رسول الله، حدِّثني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عَليكَ بالهجرةِ فإنَّهُ لا مِثلَ لَها)).
وما فضل الهجرة إلا لما يقدمه صاحبها من تضحيات بترك الديار والأهل والأحباب وركوب المخاطر والتحرك في المجهول، وربما ضيق الرزق وقلة الزاد، قبل أن تستقر له الأمور بما يمنحه الله تعالى له من مراغمة وسعة وعد بها سبحانه في الآيات وأحاديث نبيه عليه الصلاة والسلام.
وجمل الإمام الشافعي فوائد التغرب عن الأوطان في أبيات بديعة يقول فيها:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى