تداعيات السياسة الروسية في عقل هنري كيسنجر
فرج كُندي
مدير مركز الكندي للدراسات والبحوث
كتب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق في سبعينيات القرن الماضي هنري كيسنجر (1923-2023) ومهندس ساستها الخارجية المعاصرة في كتابه: “النظام العالمي” عن السياسة الروسية بعد معاهدة وستفاليا، التي تعرف أيضا بمعاهدة مونستر Treaty of Munster أو معاهدة أوسنابروك Treaty of Osnabruck، ووقّعت في الـ24 من أكتوبر 1648م في مونستر ووستفاليا (ألمانيا) الحالية.
وقد أنهى هذا الصلح حرب الثلاثين عاما (1618-1648)، وكذلك الحرب التي بدأت بالثورة ضد هابسبورغ في بوهيميا عام 1618 والتي نتجت عن صراعات مختلفة حول دستور الإمبراطورية الرومانية ونظام الدولة في أوروبا.
تكللت المعاهدة بتوقيع اتفاقيتين: الأولى وُقّعت في “مونستر” بين الإمبراطور الروماني وملك فرنسا، والثانية في “أوسنابروك” بين الإمبراطور وملك السويد.
وقد شارك في صلح وستفاليا مجموعة من الأطراف منها: الإمبراطورية الرومانية المقدّسة (الإمبراطور الروماني فرديناند الثالث)، مملكة إسبانيا، فرنسا، الإمبراطورية السويدية.
كان الهدف من هذه المعاهدة تسوية النزاعات في أوروبا بشكل عام والنزاعات الدينية بشكل خاص، وقد تعهد ملوك السويد وفرنسا بضمان شروط هذه المعاهدة.
وبناء على هذه المعاهدة ترسخ عند كيسنجر أن الساسة الأوروبيين صاروا يقرنون الأمن بنوع من توازن القوة وبضوابط على ممارسة هذه القوة.
في حين ترسخ عنده أن تجربة روسيا السياسية مع التاريخ، أن القيود على القوة كانت تعني الكوارث، فإخفاق روسيا في السيطرة على المساحات المحيطة بها كان حسب وجهة النظر هذه، قد أدى إلى كشفها أمام الغزوات المغولية وإغراقها في مستنقع حقبتها الكابوسية المعروفة برسم “حقبة المتاعب” (حقبة خمس عشرة سنة من انقطاع الحكم الوراثي قبل تأسيس سلالة “رومانوف” الحاكمة عام (1613)، وهي حقبة أودت بحياة ثلث الكتلة السكانية الروسية من جراء الغزوات والحروب الأهلية والمجاعات) .
وسلام “وستفاليا” كان يرى النظام الدولي آلية توازن معقدة، أما النظرة الروسية فعدّته صراع إرادات أبديا، مع دأب روسيا على مد سيادتها ونفوذها في كل مرحلة حتى الحدود القصوى لمواردها المادية المتمثل في سياسة التمدد المفتوح.
فحين طُلب من وزير خارجية القيصر “ألكسي” في منتصف القرن السابع عشر “ناخوكين” تحديد سياسة روسيا الخارجية سارع إلى تقديم وصف صريح ومباشر وبدون مواربة دبلوماسية قائلًا: توسيع الدولة في كل اتجاه، وهذه مهمة وزارة الخارجية.
يقول كيسنجر واصفا -الطابع العام- أو الإستراتيجي للسياسة الروسية: كانت روسيا عندما تتمتع بالقوة تتصرف من منطلق اليقينية المتسلطة المميزة لأي قوة عظمى وتصر على استعراض قوتها الردعية رسميا.
أما في حالات الضعف، فكانت تحاول حجب هشاشتها عبر الاستغراق في استحضار احتياطيات قوة داخلية هائلة، وفي الحالتين كلتيهما، كانت تشكل تحديا خاصا لجملة العواصم الغربية المدمنة على التعامل بأسلوب أكثر لطفا بعض الشيء.
والمتابع للسياسة الروسية يجد أنها في أغلب أحوالها كما وصفها كيسنجر وهو الخبير بها.
فالسياسة الروسية في أصلها توسعية سواء جغرافيا وهو ما كان سائد في أيامها القيصرية التي ابتلعت الكثير من الأراضي المجاورة لها وخاصة من الدول والشعوب الإسلامية، وأضافت لتوسعها الجغرافي توسع عقائدي من خلال توجهها الأيديولوجي بعد انتصار الثورة البلشفية سنة 1917 وقيام ما عرف بالاتحاد السوفيتي وما تبعه من الدول التي تبنت العقيدة والنظام الشيوعي باستثناء دولة الصين التي مثلت فلكا خاصا بها.
عززت روسيا نفوذها التمددي بشقيه الجغرافي والأيديولوجي بمعاهدة الصداقة والتعاون والمعونة المشتركة، وبشكل عام بحلف؛ “وارسو” الذي عقد في وارسو عاصمة بولندا بين الاتحاد السوفييتي وسبع جمهوريات اشتراكية كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي في مايو من عام 1955 خلال الحرب الباردة. هذا بالإضافة إلى معظم الدول التي كانت تتبني الحل الاشتراكي في السياسة والاقتصاد في باقي دول آسيا وإفريقيا وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عهد الرئيس “ميخائيل غورباتشوف” الذي حدث في 26 ديسمبر 1991، عقب إصدار مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفيتي الإعلان رقم (H-142) الذي أُعلِن فيه الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة، وإنشاء ما عرف برابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفيتي.
وأصبحت جمهورية روسيا الاتحادية هي وارثة الاتحاد السوفيتي خاصة الترسانة النووية مما أبقى عليها كقوة عظمي بعد تراجعها من ثاني أكبر قوة عالمية أو القطب المنافس للولايات المتحدة إلى دولة جرجت من القطب المنافس إلى دولة في مصاف الدول الكبرى لكنها منهكة من تجربة سياسية واقتصادية أنهكتها وجعلتها تتقوقع على نفسها وتعالج وضعها الداخلي، الذي استمر طيلة فترة رئيسها الأول “بوريس يلتسن” وفترة من حكم رئيسها القوي فلاديمير بوتين رجل المخابرات القوي، الذي يحلم بإعادة روسيا القيصرية أولا ثم معاودة استرجاع مكانتها الدولية وهذا ما تحقق له في الفترة الأخيرة في تدخله في سورية وإعلانه الحرب على أوكرانيا ووضع قدمه في شرق وجنوب ليبيا التي من خلالها قضى على النفوذ التاريخي لفرنسا في إفريقيا عامة ودول جنوب الساحل والصحراء ومازال يتمدد.
وهو ما أثبت نظرية داهية السياسة الأمريكية “كيسنجر” الذي وصف حركة السياسة الأمريكية التي تتمدد خلال فترة القوة والازدهار والتراجع والتقوقع المؤقت لإعادة الحسابات والإعداد الجيد للانقضاض بعد التعافي وتحين الفرص المناسبة للانقضاض.
الملفت للنظر أن الساسة الأمريكان من تلاميذ كيسنجر ومن تبعهم من الأوروبيين لم يتعلموا درس أستاذهم وبسبب غفلتهم لأهم نظرية إستراتيجية تخدم مصالح الحلف الأطلسي تكبّدت أمريكا وأوروبا خسائر كبيرة ومناطق نفوذ ليس من السهل استعادتها بل سوف تكبدها أموالا كثيرة وعقودا من الزمن حتى تتدارك استعادتها مع استماتة روسية في المحافظة على مكتسباتها التي حققتها بسبب غفلة الغرب عن نظرية كيسنجر حول السياسة الروسية الدالة على دراسة موسعة لحركة التاريخ وفهم عميق للأسس والقواعد الإستراتيجية التي تقوم عليها السياسة الروسية، العدو التاريخي للغرب منذ اندلاع الحرب الباردة التي مازالت تداعياتها قائمة إلى هذه الساعة، وربما تستمر إلى عقود قادمة وإن تغيرت معالمها وصورها إلا أن بقاياها وبعض نتائجها لم تندثر بعد.