تنمية الحس الجمالي في المنهج التربوي الإسلامي
فرحات الهوني
الإسلام دين الفطرة وهذا ما يؤكده الكتاب والسنة وكتب التربية والواقع ولم يحث الإسلام على شيء إلا والفطرة ترغبه ولم ينهَ عن شيء إلا والفطرة تعافه. قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة الروم 30].
ومن الأشياء التي رغب الإسلام فيها وقد ظن الكثيرون جهلاً أنها نشأة غربية مستوردة هي التربية الجمالية أو تنمية الحس الجمالي لدى الإنسان، وذلك بأن يكون للجمال بأنواعه تقدير في نفس المسلم وسلوكه.
ونقصد به أن يكون الإنسان قادرا على التذوق والشعور والانتباه إلى القيمة والكيفية الجمالية التي توجد في الأشياء سواء كانت طبيعية أو عادية، أو في أي عمل فني دون أن يهتم بصلتها بالنفع المادي أو تحقيق أي مكسب، التربية الجمالية مجموعة من القيم التربوية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية تهدف إلى تنمية المواهب والقدرات الشخصية للفرد، وذلك من خلال تحفيز التذوق الجمالي بشقيه الحسي والمعنوي لكي يدرك جوهر الجمال وقيمه السامية.
فقد أمرنا الإسلام بالسياحة في الأرض والتأمل في الطبيعة والنظر في الكون وبديع صنعه سبحانه قال تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [سورة اﻷعراف 185]
ورسم لنا لوحات رائعة من هذا الكون من تناسق بديع لأشجاره وبحاره وأنهاره وجباله وشموسه ونجومه واختلاف الألوان والأشكال والمخلوقات فيه، قال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيح) [سورة الملك 5]، وقال: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) [سورة الحجر 16]، وقال: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةَ) [سورة النمل 60].
ونقلنا بخيالنا إلى هذه الصورة البديعة فقال سبحانه في سورة ق :(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) [سورة ق 6 – 10].
يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد في كتابه آفاق الجمال: “وهذا المنظر اليومي المتكرر الذي ينام عنه الغافلون الذين حرموا نعمة الصلاة، ولا يراه إلا مؤمن يصلي الفجر إذ غيره يغط في فقره القلبي: منظر طلوع الفجر، وتسبيح الأطيار، وبزوغ الشمس: كم هو آسر، وقد اجتمعت أسرار الجمـال فـيـه.
فإن الله جميل سبحانه، يحب الجمال، وفي النفس الإنسانية أثر من ذلك، فهي تعشق الحسن واللطائف والألوان، وتستروح للمنظر المتناسب، والشيء المقدر الموزون، وتنفر من الفوضى، والصخب، ومنكرات الأشكال، وما خرج عن الاستقامة، حتى جعل الله تعالى من أعظم المنن التي امتن بها علينا: إتاحة الاستمتاع بالجمال فقال: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون*ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} (النحل:5/ 6).
قال القرطبي: (وجمال الأنعام والدواب من جمال خلقه، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها: هذه نعم فلان، وقال السدي. ولأنها إذا راحت: توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها
ومن البحر نخرج الزينة لنتجمل بها، قال تعالى: (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَاَ) [سورة النحل 14] ، قال القرطبي: (فالحلية حق، وهي نحلة الله تعالى لآدم وولده).”
وجعلنا نطوف بآمالنا في جنة الخلد وما فيها من نعيم مقيم، تأمل سورة الرحمن وهي تبحر بك في الجنان في وصف بديع لما تتطلع إليه أرواحنا لتزداد تقربا منه سبحانه.
بدأ الجمال يحظى باهتمام المسلمين في لمساتهم العمرانية ونرى تلك المساجد والقصور والدور كيف تأخذ الألباب جمالا ونضارة، وكان للمسلمين إتقان مهارة الخط العربي والرسم والنقش والزخرفة والحداء والأنشودة وأنغامها وفنونها.
ومن الجمال جمال العبارة والبيان من الشعر والنثر المعجز كما في قوله صلى الله عليه وسلم “إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرًا” وقد أهدى رسول الله بردته إلى الشاعر كعب بن زهير في قصيدته المشهورة “بانت سعاد فقلبي اليوم متبول” وسميت القصيدة بالبردة.
وحتى عند الاختلاف والجدال نحن مأمورون أن نتأدب ونظهر الجمال وحسن الحديث مع التودد والتحبب بالمشاعر الصادقة مع من نختلف معهم يعكس ذلك أفعل التفضيل في لفظ أحسن في الآيتين الكريمتين قال تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) [سورة النحل 125] ، وقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنَُ) [سورة العنكبوت 46]
حتى في الأذان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا أن يتعلمه ويقوم هو به لأنه أندى صوتا وفي قراءة القرآن نحن مأمورون أن نؤديه بطريقة مميزة، قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [سورة المزمل 4]، وقال صلى الله عليه وسلم: “زينوا أصواتكم بالقرآن “وقال لأبي موسى الأشعري: “لقد أوتيت مزمارا من مزامير داوود”، إنها جمالية الأداء الصوتي تجويدا وترتيلا وتحبيرا.
وعن السلوك والخلق فلن تجد إلا ربطا متناسقا بين الكثير من الأخلاق والجمال في كتاب الله تعالى، وإليك بعض الآيات قال تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [سورة الحجر 85] ،وفي الصبر قال تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) [سورة المعارج 5]، وقال على لسان يعقوب: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) [سورة يوسف 18]، وكررها يعقوب: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [سورة يوسف 83]، وفي الهجر (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) [سورة المزمل 10].
حتى عند انفراط العقد بين الزوجين وكان العزم على الطلاق يأمر القرآن بتجميل الموقف على شدته (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [سورة اﻷحزاب 49].
وأمرنا أن نكون من أصحاب اللباقة في الحديث وأن نتخير أطيب الكلام كما نتخير أطيب الثمار قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة اﻹسراء 53]، والابتسامة جمال المحيا اعتبرت صدقة قال صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وعن الذوق في التعامل؛ فمن الاستحباب إطلاق السلام ورده بأحسن منه، وإماطة الأذى قال صلى الله عليه وسلم “إماطة الأذى عن الطريق صدقة” والمحافظة على آداب الأكل، قال صلى الله عليه وسلم مربيا “يا غلام سمِّ الله وكل مما يليك” إلى الأمر بالاستئذان في الدخول وأن نعلمه لأبنائنا من صغرهم قال تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة النور 59].
وللمظهر الجميل أثره في النفوس لذا يحث الإسلام على يكون المسلم حسن المظهر في بيته وملابسه كما ورد في حديث “إن الله جميل يحب الجمال”، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ)، ونهانا عن رفع الصوت والصخب وعن الجلوس في الطرقات.
أليس ما أشرنا إليه آنفًا هو ما يدرج اليوم تحت باب الذوق العام.
كذلك مطلوب من المسلم أن يكون مرتبًا ومنظما في شؤونه حريصا على وقته ووقت الآخرين صادق الوعد سمحًا في التعامل، وأن نحترم جهود الآخرين من جمال الأخلاق، ولعلنا نتذكر عندما فتح الصحابة البلدان ومروا على آثار أمم ممن سبقوهم فلم يهدموها بل احترموا الجهد البشري والقيمة الحضارية وجمال بنائها وهندستها.
إن تعزيز الحس الجمالي له دور في بناء شخصية الإنسان وتكوينه الوجداني والعقلي، يبدأ نمو الحس الجمالي لدى الإنسان وهو طفل في مرحلة الإدراكية الأولى، ومن هنا يعد تشكيل الوعي الجمالي لدى الطفل هدفًا تربويًا أساسيًا تغفل عنه جهود تربوية كثيرة، مما يقلل من فاعليتها وإيجابيتها، ولا يتم تشكيل هذا الوعي من خلال الأسرة فقط كأول وسط تربوي يتعامل معه الطفل، بل عبر الوسائل الثقافية والتعليمية والإعلامية التي عليها صياغة وعي الطفل بكل القيم الجمالية.
فلنتدبر في الوصف القرآني البليغ والأحاديث النبوية التي تتحدث عن الجمال البياني والجمال الكوني والذوق الأخلاقي الراقي، ولعلنا نختم حديثنا هذا عن الجمال ببيتين من الشعر لسيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه وهو يصف بدر الكمال حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
“وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني ** وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ ** كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ”.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد بدر الجمال والكمال وسيد البيان.