حضارات مشوهة
أ. فرحات الهوني
عندما ننظر إلى الأهرامات بمصر وتاج محل (شيده الملك شاه جهان الإمبراطور المغولي (1630 – 1648 ليضم رفات زوجته ممتاز محل) بالهند… ننبهر من التصميم الهندسي الفني الخيالي المبدع وطريقة بنائهما التي جعلتهما في مصاف عجائب الدنيا العمرانية وتشد لهما رحال السياحة…وهي حقيقة.
ولكن إذا نظرنا لهما كقيمة إنسانية نجد أنهما رمز للاستبداد والظلم والترف والفساد…حيث مات الآلاف من المصريين من أجل بناء قبر لفرعون مصر….وعاش الآلاف من الهنود في العازة والفاقة والفقر من أجل قبر للأميرة صرفت عليه الأموال الطائلة من قوت الناس.
يموت الآلاف من البشر ويجوع غيرهم من أجل قبور مستبدين ومترفين…أي حضارة وجمال؟ عمارة على أنقاض الجثث.
فعندما نرى الأهرامات وتاج محل نرى معاناة أمم اضطهدت شوّه جمالهما وفن العمارة فيهما صدى أنين المستضعفين من التنكيل والاستعباد.
دفن الميت…وقتل الشعب…وبقيت العجائب منتصبة شواهد على الطغيان والظلم.
والأعجب من العجائب هذه الشعوب الحاضرة التي تعتز وتفتخر بانتمائها وانتسابها إلى حضارة هؤلاء المستبدين الطغاة الذين كانوا سببا في شقاء أسلافهم…ويتركون موروثهم الإنساني المتنوع من العلم الشرعي والثقافي والصناعي والأدبي من علمائهم ومفكريهم ومصلحيهم وأدبائهم عرضة للتشويه والتسفيه.
يقول الدكتور عمر عبد الكافي عن علماء مصر: “كنت أرى أن الشعراوي عندما يتكلم كأنه قلب في صورة لسان، والشيخ الغزالي إذا تكلم كأنه عقل في صورة لسان، أما الشيخ القرضاوي فهو عبارة عن موسوعة فقهية.
إذا كان هناك من المجددين في هذا القرن، فهؤلاء الثلاثة الكبار الشيخ الشعراوي والغزالي والقرضاوي، إذا افتخرنا بأهرامات مصر – كمبانٍ هندسية، وليس كمقابر للفراعنة، فهؤلاء هم أهرامات الإسلام الكبيرة”
هذا هو ما يجب أن نفتخر به، الذين قدموا الخير للبشرية.
فعندما تفقد الإنسانية قيمتها يجلب الطغاة سعادتهم وسعادة ذويهم من شقاء شعوبهم….ومجد مزيف يُبنى من جماجم الشرفاء من أبناء الوطن.
إن الأمجاد والحضارات التي تُبنى على القتل والتهجير واستلاب الأملاك، ما هي إلا أمجاد وحضارات واهية ليس لها أي معنى إنساني.
والتاريخ المعاصر ليس بدعة من هؤلاء الذين يحالون أن يتركوا تاريخًا في ظنهم أنه مجد وما هو إلا طغيان تجاوز الإنسانية هبوطا.
والواقع يصدق ذلك….
فمن شواهد التاريخ المعاصر ما حدث في يناير 2018 م، حيث أعادت فرنسا رفات (24) مجاهدًا شهيدًا جزائريًا ما يمثل الدفعة الأولى من أصل ما يربو على (500) شهيد ”يرحمهم الله“ في عشية احتفالات الجزائر بالذكرى الثامنة والخمسين لاستقلالها، والمفارقة أن الرفات الذي أعيد من فرنسا بلد النور والحرية، تعرض لأشد وأشبع مظاهر التمثيل والتنكيل، من جهة زعمت أن استعمارها استهدف نقل الحضارة والمدنية الغربية والحرية إلى الجزائر ..بالنار والحديد والقهر
أعادت الرفات رؤوسًا بلا أجساد، وحُفظت جماجمها في معرض المتحف الوطني الفرنسي للتاريخ الطبيعي لذكرى انتصاراتهم وفظائعهم بحق الإنسانية وحرية الشعوب.
ناهيك عما فعلته بقية الدول الغربية التي استعمرت الدول الضعيفة، من تنكيل وقتل ونهب ثروات.
وكذلك الحروب العالمية وغيرها التي حصدت أرواح الملايين من البشر وأهلكت الحرث والنسل، من أجل أطماع مغلفة بنقل الحضارة والمدنية إلى الدول المتخلّفة.
يقول الأستاذ مصطفى كيشانة في كتابه “الإسلام والغرب عند أبي الحسن الندوي”
“يعد المفكر والمصلح الهندي (أبو الحسن الندوي) ممن قدموا رؤى مبكرة في نقد الحضارة الغربية، تتميز بأنها وضعت أسسا للنقد صرفت اهتمامها للجذور البعيدة، والغايات الكامنة لتلك الحضارة، وتحديد موقف المسلمين منها، وهو نقد قائم على أسس عقدية في المقام الأول، فالدين -برأيه- هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه أي مشروع نقدي للغرب، لذا كان دائم التحذير من الانبهار المادي بالغرب دون إدراك حجم الأزمة التي تعاني منها تلك الحضارة في علاقتها مع الإنسان”
“ويلاحظ أن الندوي نظر إلى الغرب في إطار رؤية صراعية خاصة في الجانب الفكري، ورأى أن النخب الحاكمة والمتنفّذة في أغلب العالم الإسلامي هي البيئة الصالحة لازدهار الأفكار الغربية، لأنها متصالحة مع الغرب مرتبطة به في إطار مصلحي وثيق”.
فإذا أردنا أن نقيم حضارة أو صناعة مجد لابد من معرفة كيف تم بناء هذه الحضارة وكيف صنع هذا المجد؟ وماذا قدمت للإنسانية؟ وأين موقع الإنسانية فيها؟…فإذا وجدنا في هذه الحضارات أن الإنسان المعدم لا يجد فيها مأوى ولا مأكل، فالأرض فراشه، والسماء غطائه، وفتات الناس قوته، وأنه وقود الحرب، وضاع فيها حقه، فاعلم بأنها حضارات زائفة ومشوهة.
ولو تحدثنا عن الحضارة الإسلامية لوجدنا أن تكريم الإنسان هو محور حضارتها (ولقد كرمنا بني آدم) ليس المسلم ولا العربي ولا الأبيض، ولهذا نجد من وضع أسس هذه الحضارة هم: “أبوبكر العربي – وبلال الحبشي – وصهيب الرومي – وسلمان الفارسي”.
حضارة من أساسها تكريم الإنسان ووحدة جنسه دون النظر إلى جنسيته أو لونه عكس المفهوم الغربي للإنسان، يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي – رحمه الله- “الواقع أن فلسفة الإنسان لا زالت في الغرب رهينة تعابير ومصطلحات لا تسمح للذهن الغربي أن يتصور وحدة الإنسان، وتضامن ملحمته على وجه الأرض، فهناك كلمات وألقاب مثل ((الزنوج، الأسود، الجلد الأحمر)) تعبر في الغرب عن عينات إنسانية سفلى وهناك عبارات تضفي على بعض الأجناس صفات أو ألقاباً معينة إلى الأبد….
وإن كنا لا ننكر ما قدمته الحضارة الغربية من خير للبشرية المعاصرة مثل بحوث وتقنيات اكتشافات علمية وتطوير وسائل النقل والاتصالات، ولكن يبقى تشوهها من ناحية القيم الإنسانية وعلاقتها مع الإنسان.
حضارة المسلمين تربي الإنسان لا ليكون مواطنًا صالحًا فقط؛ بل تربيه ليكون إنسانا صالحا هذا الإنسان أينما رحل ونزل يحمل هذه القيم معه فالمسلم في بلاد المسلمين أو غيرها هو إنسان يحمل قيمًا إنسانية، فالأخلاق السيئة لا يجوز للمسلم أن يتواطأ فيها في أي مكان من الدنيا.
حضارة ليست مبنية على الإكراه “لا إكراه في الدين”
حضارة خرج منها من هم قدموا الخير للبشرية من علماء ومفكرين ولهم الفضل في تطوير الكثير من العلوم ولهم اكتشافات في شتى العلوم سواء التطبيقية أو العلوم الإنسانية ومازالت كتبهم مراجع للباحثين إلى هذا الوقت.
حضارة مبنية على العدل فلقد برّأ القرآن يهوديًا عندما اتّهم بالسرقة وسطرت آيات تتلى إلى يوم القيامة، كما ورد قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا).
حضارة يروى عن حكامها أنه: “جيء إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بأموال الزكاة، فقال: أنفقوها على الفقراء، فقالوا: ما عاد في أمة الإسلام فقراء، قال: فجهزوا بها الجيوش، قالوا: جيوش الإسلام تجوب الدنيا، قال: فزوّجوا الشباب فقالوا: من كان يريد الزواج فقد زوجناه، فقال: اقضوا الديون على المدينين، فقضوها وبقي مال، فقال: انظروا إلى المسيحيين واليهود من كان عليه دين فسددوا عنه ففعلوا ذلك وبقي مال، فقال: أعطوا أهل العلم، فأعطوهم وبقي مال، فقال: اشتروا بها قمحًا وانثروه على رؤوس الجبال لكي لا يقال جاع طير.”
حضارة يقول القادة فيها لجنودهم وهم في حالة الحرب ولا تتبعوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، لا تقتلوا مرأة ولا طفلًا، لا تهدموا بيتاً ولا تحرقوا شجرا، ولا تفتحوا باباً مغلقاً ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم الناس.
حضارة لم تتقدم فيها الصناعات العسكرية وآلات الدمار إلى القرون المتأخرة، لأن الحروب والقتال ليس هدفهم، غير ما نلاحظه من تقدم الغرب في صناعة الأسلحة المروعة في القرن الماضي، وهنا نرى الفرق الكبير بين الحضارتين في مفهوم الحرب والسلم.
فعندما نريد أن نتحدث عن حضارة ونقيّمها وننصفها، فمعيارها الأساسي هو كرامة الإنسان وقيمته الإنسانية …وإلا فهي واهية ومشوهة وزائفة.