عاممقالاتمقالات الرأيمقالات تربوية

خادم الحرَميْن الشَّريفيْن صلاح الدين الأيوبي

د. محمد المختار الشنقيطي

كان الرحَّالةُ الأندلسي محمد بن أحمد الكناني المشهور بابن جبير (540-614هـ/ 1145-1217م) من الكتَّاب الذين جمعوا دقة الملاحظة، وفضول المؤرخ، وبلاغة الأديب. وقد ورَّثنا ابنُ جبير في كتاب رحلته شهادة عيان نابضة بالحياة عن الحواضر الإسلامية التي زارها، في لحظة تمزُّق عميق وانبعاث جديد في المجتمعات الإسلامية، شبيهة بما نعيشه اليوم.

ومِن الـمَواطن المهمة التي قدَّم ابن جبير صورة دقيقة عن حالها آنذاك بلادُ الحرمين الشريفين والقدس الشريف. فحينما بدأ ابن جبير رحلته في حواضر الإسلام الكبرى، كانت أرض الحجاز في حال يُرثى لها، يحكمها أمراءُ أنذالٌ، ينتهكون حرماتِ الإسلام، ويبتزُّون حُجَّاج بيت الله الحرام. وكانت القدس ترزح تحت الاحتلال الصليبي لعقود مديدة. وكان التخاذل والأنانية السياسية سائدين في سلوك جل أمراء المسلمين.

لكنْ من أحشاء ذلك الليل البهيم، الضارب بأطنابه على قلب العالم الإسلامي، كان فجرٌ يُطلُّ من بلاد الشام، وميلادٌ أليم يتحقَّق في أكناف بيت المقدس. فقد زار ابن جبير دمشق، يوم كانت عاصمة صلاح الدين الأيوبي، ومكث فيها شهرين وبضعة أيام، ولم يلق صلاح الدين وجهاً لوجه، لكنه زار أقاليم تحت حكمه، وأبصر أثر سياساته وإنجازاته، فأدرك أن تحولاً عميقا يتخلَّق في أحشاء تلك المجتمعات الممزَّقة.

وقد لفت نظرَ ابن جبير تديُّنُ صلاح الدين، وصلابتُه في جهاد الصليبيين، وسياستُه المالية الرحيمة التي أراحت الرعية -خصوصا الحُجاج- من مكوس مرهقة ومجحفة كانت مفروضة عليهم. وأشاد ابن جبير بعدل صلاح الدين، وحِلْمه، ورفْقه بالرعية، وخضوعه لقوانين الشرع، وبقوله عن نفسه: “إنما أنا عبْدُ الشرع” (رحلة ابن جبير، 271)، وأثنى على “ما له من المآثر المأثورة في الدنيا والدين، ومثابرته على جهاد أعداء الله” وانتهى إلى أن “هذا السلطان رحمةٌ للمسلمين بهذه الجهات، فهو لا يأوِي لراحة، ولا يخْلد إلى دعَة، ولا يزال سرجُه مجلسَه.”  (ص 270).

ومن سياسات صلاح الدين التي توقف عندها ابنُ جبير طويلاً، وأشاد بها في أكثر من موضع من كتاب رحلته، رفْعُه المكوس الظالمة التي كان الملوك الفاطميون يفرضونها على العابرين من مصر من الحُجَّاج إلى بلاد الحجاز، وكان أمراءُ الحجاز آنذاك يفرضوها على جميع الحُجَّاج بقسوة واستغلال فظيع. فعدَّ ابن جبير “من مفاخر هذا السلطان المُزْلِفَة من الله تعالى، وآثارِه التي أبقاها ذكراً جميلاً للدين والدنيا: إزالتُه رسْم المكْس المضروب وظيفةً على الحُجَّاج مدة دولة العبيديين [الفاطميين]، فكان الحُجَّاج يلاقون من الضغط في استيدائها عنَتاً مُجحفاً، ويسامون فيها خطَّةَ خسفٍ باهظة.” (ص 30).

أما أمراء الحجاز فكان استغلالهم للحُجَّاج أبشعَ، حتى من مكوس الفاطميين في مصر، كما لاحظ ابن جبير، ذلك أنهم “صيَّروهم من أعظم غَلاَّتهم التي يستغلونها: ينتهبونهم انتهاباً، ويُسبِّبون لاستجلاب ما بأيديهم استجلاباً. فالحاجّ معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن يُيَسر الله رجوعه إلى وطنه.” (ص 54). وهنا وجد ابن جبير في سياسات صلاح الدين الأيوبي شفاءً من هذا الهمّ المسلَّط على قاصدي بيت الله الحرام، فكتب: “ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين، لكانوا من الظلم في أمرٍ لا يُنادِي وليدُه، ولا يلينُ شديدُه” (ص 54) وقال أيضا عن صلاح الدين: “وشأنه في الملوك كبيرٌ، وله الأثر الباقي شرفُه من إزالة المكوس بطريق الحجاز، ودفْعِه عِوَضاً عنها لصاحب الحجاز. وكانت الأيام قد استمرت قديما بهذه الضريبة اللعينة إلى أن محا الله رسْمها على يديْ هذا الملك العادل أصلحه الله” (ص257).

وقد بلغ ابنُ جبير من الحِنْق على السياسات الفاجرة التي انتهجها أمراء الحجاز في التعامل مع ضيوف الرحمن من حُجاج البيت الحرام أن صرخ صرخة مفجوعٍ، قائلاً: “فأحقُّ بلادٍ الله بأن يطهِّرها السيفُ، ويغْسلَ أرجاسَها وأدناسَها بالدماء المسفوكة في سبيل الله، هذه البلادُ الحجازية، لما هُمْ عليه من حَلِّ عُرَى الإسلام، واستحلال أموال الحاجّ ودمائهم” (ص 55).

أما القدس فقد تألم ابن جبير كثيراً لوجودها بيد المحتلين الصليبيين، فكان يُنفِّس كربه بالدعاء حين يَذكُر القدس وغيرها من حواضر الشام المحتلة آنذاك، فيقول مثلا عن القدس: “بيت المقدس أعاده الله للإسلام” (ص 256)، ويقول عن مدينة صور: “والله تعالى يعيد إليها وإلى أخواتها كلمة الإسلام بمنِّه وكرمه” (ص 255). وعبَّر ابن جبير مرة عن حزن وضيق عميق، لأنه اضطر إلى ركوب سفينة مع بعض الصليبيين المتجهين إلى القدس، فكتب: “أراح الله من صحبتهم بعاجل السلامة، ومأمول التسهيل، والصنع الجميل.” (ص 255-256).

وحين فتح صلاح الدين القدس واستردَّها من أيدي الصليبيين، بعد نهاية رحلة ابن جبير، بعث إليه ابن جبير قصيدة جميلة، خلَّد فيها مآثره الجليلة. وقد أورد المؤرخ أبو شامة القصيدة في “كتاب الروضتين”.  وفيها يقول ابن جبير في صلاح الدين:

ثأرْتَ لدين الْهُدى فِي العِدَى / فآثـــــَرَك الله من ثائـرِ
وَقمتَ بنصر إِلَه الــورى / فسمَّاك بِالْمــلكِ النَّــــــاصـــــِرِ
وجاهــــدتَ مُجْتَهداً صَـابــراً / فَلِلَّه أجــرُك من صــــابــرِ
تبيت الْمُلُوكُ على فُرْشهـــم / وترْفُلُ فِي الزَّرَد السابـــري
وتُؤْثر جَاهِدَ عَيْش الْجِهَـــاد / على طيب عيشهم الناضــرِ
وتَسْهر ليلــَك فِي حقِّ مَـــنْ / سيرضيك فِي جفنك الساهرِ
فتحتَ الْمُقَدَّس من أرضـه / فَعَادَت إِلَى وصفهَا الطَّاهِــر
وَجئْتَ إِلَى قدْسه المرتـضى / فخلَّصْتَه من يَد الْكـــــافـرِ
وأعليتَ فيه منار الْهُـــدى / وأحييْتَ من رسْمه الدَّاثــِــرِ
لكُم ذَخَر الله هذي الْفتُوح / من الزَّمــن الأوَّل الغــابــــــرِ
وخصَّك من بعد فاروقـــه / بهَا لاصطناعك فِي الآخـــــرِ
محبتكم أُلْقيتْ فِي النُّفُوس / بذكرٍ لكم فِي الورى طــــائــــرِ
فكم لَهُمُ عِنْد ذكر الْمُلُــوك / لمثلــك من مثل سَائـــرِ
 (أبو شامة، عيون الروضتين، 3/372-373).

وتكشف شهادة ابن جبير عن اتساع سمعة صلاح الدين ومكانته في العالم الإسلامي، كما هو واضح من البيت قبل الأخير في هذا المقطع من القصيدة، ومن مشاهد دوَّنها ابن جبير أثناء حجِّه. فقد احتفظ لنا ابن جبير في كتاب رحلته بصورة حيَّة من تعلُّق قلوب المسلمين بصلاح الدين الأيوبي، بسبب تحريره أرض الحجاز من الأمراء الفَجَرة، وخِدْمته حُجّاج بيت الله الحرام، وتحريره بيتَ المقدس.

فحين شهد ابنُ جبير خطبة الجمعة في المسجد الحرام، لاحظ تعلُّق الناس القادمين من كل أرجاء العالم الإسلامي باسم صلاح الدين الأيوبي، فلا أحدَ يهتمُّ حين يدعو خطيب الجمعة في المسجد الحرام للخليفة العباسي، أو حين يدعو لأمير الحجاز، لكن الجميع ينجذبون إلى دعائه لصلاح الدين الأيوبي، ويؤمِّنون عليه. قال ابن جبير: “وعند ذكْر صلاح الدين بالدعاء تخفَقُ الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان، وإذا أحبَّ الله يوماً عبده ألقى عليه محبة للناس، وحُقَّ ذلك عليهم، لما يبذله من جميل الاعتناء بهم، وحسن النظر لهم، ولما رفعه من وظائف المكوس عنهم.”(ص 73).

ومن طرائف ما ورد في كتاب رحلة ابن جبير  سخريتُه من الألقاب الدينية الفخمة التي اعتاد السلاطين والأمراء في المشرق إضفاءها على أنفسهم، مراءاةً للرعية، ومخادعةً للعوام، مثل “شمس الدين” و”قطب الدين” و”سيف الدين” و”شهاب الدين”، وهم أمراء عَجَزةٌ فسَدةٌ، لا يهتمون بدين ولا دنيا، بل تحكَّمت فيهم الأنانية السياسية -مثل ملوك الطوائف في الأندلس- وتخلوا عن كل مسؤولية تجاه الأمة والملة، ثم حاولوا التعويض عن ذلك بتلك الألقاب الفخمة، والمظاهر الجوفاء.

لكن ابن جبير استثنى صلاح الدين الأيوبي من هذه الظاهرة، واعتبر اسم “صلاح الدين” اسماً على مسمَّى فقال: “سبحان الذي جعله صلاح دينه كاسمه.” (ص 23). أما بقية أمراء المشرق فكتب فيهم ابن جبير ساخراً: “سلاطينُ شتى -كملوك طوائف الأندلس- كلُّهم قد تحلَّى بحلية تُنسَب إلى الدين، فلا تسمع إلا ألقاباً هائلة، وصفاتٍ لذي التحصيل غيرِ طائلة، قد تساوَى فيها السوقة والملوك، واشترك فيها الغنيُّ والصعلوك. ليس فيهم من ارتسَم بسِمَةٍ به تليق، أو اتصف بصفة هو بها خليق، إلا صلاحُ الدين صاحب الشام وديار مصر والحجاز واليمن، المشتهر الفضل والعدل. فهذا اسمٌ وافق مسمَّاه، ولفظٌ طابق معناه، وما سوى ذلك في سواه فزعازعُ ريحٍ، وشهاداتٌ يردُّها التجريح، ودعوى نسبة للدين برَّحتْ به أي تبريح:

ألقابُ ممْلكةٍ في غير موضعها   /   كالهرِّ يَحْكي انتفاخاً صولة الأسد.” (ص 216).

إن شهادة ابن جبير على عصره شهادة ممتعة ومَلْأَى بالعبر، ولعل أعظم عبرة تمنحنا إياها اليوم هي أن بلاد الحرمين الشريفين وبيت المقدس ستظل ميزاناً في الضمير الجمعي الإسلامي لا يُحابي، ومعياراً في الحكم على حكام المسلمين لا يُخطئ. وأن الذين شرَّفوا أنفسهم بالدفاع عن الحرمين الشريفين، وخدمة ضيوف الرحمن، وتسهيل وصولهم إلى البيت العتيق، والذين ضحَّوا في سبيل استعادة المسلمين لبيت المقدس، سينالون مكانتهم اللائقة في الضمير الجمعي الإسلامي، وسيخلِّدهم التاريخ الإسلامي إلى الأبد، فضلا عما ينتظرهم من أجرٍ وذُخْر  عند الله تعالى.

أما الذين يندفعون اليوم إلى التضييق على قاصدي البيت العتيق، وصدِّ بعض المسلمين عن المسجد الحرام، وتحميل بعضهم أعباءً إضافية في سبيل الحج، وتأميم شعائر الله وتسخيرها في خدمة أهوائهم السياسية.. ثم يتواطأون في إبقاء بيت المقدس بيد الأعداء المحتلين، ويحاربون أحرارَ الأمة وأبرارَها، ويسجنون الآمرين بالقسط من أبنائها، ويطاردون الساعين إلى تحقيق حريتها وتحرير أرضها.. فلن تُغني عنهم الألقاب الدينية الفخمة التي قد ينتحلونها، ولن يخدعوا الضمير المسلم بأقوال تكذِّبها الأفعال، وشعاراتٍ تنْقضُها الوقائع. ولن تكون مصائر هؤلاء بأفضل من مصائر ملوك الفاطميين وأمراء الحجاز في الأيام الخوالي، ممن جرفتْـهم رياح التاريخ العاتية في لحظة انبعاث الأمة من مَرْقدها، ثم حكَم التاريخ عليهم بحُكمه الذي لا يرحم، على نحو ما سجَّله ابن جبير في كتاب رحلته بكل أمانة وصدق.

لقد كان القاضي المؤرخ ابن شداد هو الذي لقَّب صلاحَ الدين الأيوبي بلقب خادم الحرمين الشريفين منذ أكثر من 800 عام، فكتب في أول صفحة من كتابه عن صلاح الدين (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) ما يلي: “وبعدُ فإني لما رأيت أيام مولانا السلطان، الملك الناصر ، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، رافع علَم العدل والإحسان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، منقذ بيت المقدس من أيدي المشركين، خادم الحرمين الشريفين، أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي سقى الله ضريحه صوب الرضوان، وأذاقه في مقر رحمته حلاوة نتيجة الإيمان…” فكان هذا اللقب يومذاك اسماً على مُسمَّى. ثم تلقَّب به آخرون في عصرنا..

وشتان ما بين اليزيديْن في النَّدَى  /  يزيدِ بن عمرٍو والأغرِّ ابن حازمِ

رحم الله خادم الحرمين الشريفين صلاح الدين الأيوبي، على ما عظَّم من شعائر الله في بلاد الحرمين الشريفين، وما رفع من عنَت وضيق عن قاصدي البيت العتيق، وما بذَل من تضحيات جِسام في تحرير بيت المقدس من الهمَج المحتلين. ورحم الله الرحَّالة الأديب الأريب محمد ابن جبير على ما خلَّد لنا من شهادات نابضة، فيها عبرةٌ للمعتبر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى