عامقضايامقالاتمقالات الرأي

سقوط الإجماع بخصوص الاستيطان

د. عبدالوهاب المسيري

تصور الحركة الصهيونية نفسها بأنها حركة التحرر الوطني (للشعب اليهودي)، وأنها ستقوم بجمعه في وطنه القومي، أي كامل أرض فلسطين، وأن المستوطنين هم طليعة هذا الشعب، وهي بذلك تتجاهل آلاف السنين (التاريخ العربي) وملايين البشر (الفلسطينيين أصحاب الأرض).

ولكن مع تصاعُد الانتفاضة تساقط هذا الجانب من الأسطورة الصهيونية، وبدلاً من رؤية المستوطنين باعتبارهم طليعة الشعب اليهودي، بدأت بعض الأصوات «الإسرائيلية» بل الصهيونية تتعالى ضدهم، ومما يفاقم الأمور النزعة الاستهلاكية الترفيَّة لدى هؤلاء المستوطنين الصهاينة، فمن المعروف أن الدافع وراء الاستيطان في الضفة الغربية ليس دافعاً دينياً أو قومياً، بل استهلاكياً، فهم يبحثون عن حياة مترفة رخيصة.

ويرى كثير من الدارسين أن الاستيطان هو جوهر الصهيونية، عمودها الفقري، وكما قالت إحدى الصحف «الإسرائيلية»: إن حركة الاستيطان توجد في قلب الصهيونية، ولا يوجد صهيونية بدون استيطان (Israel’s Business Arena 31/ 3/ 2002).

وقد ردَّ بن جوريون الفكرة نفسها بعد إعلان الدولة، وكان الصهاينة يطلقون على المستوطن اليهودي كلمة «حالوتس»، أي رائد؛ لأن تصورهم أن هذا المستوطن كان يأتي لأرض بكر عذراء فيستولي عليها ويطهرها من سكانها ثم يحرثها ويزرعها ويحرسها بنفسه، ولذا فهو يمسك بالبندقية بيد والمحراث باليد الأخرى، وكان المفروض أن يعيش هذا المستوطن حياة متقشفة ويدين بالولاء للأيديولوجية الصهيونية التوسعية، وكان يُعدُّ طليعة الشعب اليهودي والقوة العسكرية «الإسرائيلية».. إلخ، وبعض جوانب هذه الصورة كان حقيقياً حتى عام 1967، ولكنها تغيَّرت بشكل جذري بعد ذلك التاريخ.

وما لم يدركه الكثيرون في الوقت الحاضر أن نوعية المستوطن الصهيوني في غزة والضفة الغربية تختلف تماماً عن نوعية المستوطنين في الماضي، فالمستوطن الجديد شخص مُرفَّه يبحث عن راحته ولذته ومنفعته، وقد سميت هذا النوع من الاستيطان عام 1984 «الاستيطان مكيَّف الهواء»، وقد فوجئت بالمعلِّق العسكري «الإسرائيلي» البارز زئيف شيف («هاآرتس» 17/ 6/ 1986) يُطلق عليه اصطلاح «الأمن ديلوكس» أو «الأمن الفاخر»، فالمستوطنون الصهاينة الجدد في الضفة والقطاع لا يريدون أن يحملوا البندقية أو المحراث (فهم يطالبون الجيش «الإسرائيلي» وأجهزة الأمن الأخرى أن يضمنوا لهم نوعاً من العيش الممتاز في المناطق المحتلة، وأن تكون حياتهم مكفولة أمنياً، وطبيعة الأمن الذي يطلبونه بالمواصفات التي يطلبونها ليست موجودة في أي مكان آخر في «إسرائيل»، و«إسرائيل» بأكملها لا تتمتع بمثل هذا الأمن الفاخر) («هاآرتس» 17/ 6/ 1986).

وقد بينت «هاآرتس» (30/ 12/ 1987) أن توطين مستوطن صهيوني في النقب يكلف الدولة 820 دولاراً، بينما تبلغ تكلفة توطينه في مستوطنة في الضفة الغربية 2100 دولار، وهذه التكلفة المباشرة لا تغطي التكاليف غير المباشرة وغير المنظورة من لزوم الاستيطان الفاخر.

ويبدو أنه مع تصاعد المقاومة عادةً ما تعيد قطاعات كثيرة من العدو الصهيوني حساباتها بخصوص الاستيطان في الضفة الغربية وغزة، ففي انتفاضة عام 1987 انطلق السخط على الاستيطان المكيَّف الهواء من عقاله، فوصف رابين المستوطنين بأنهم يشكلون عبئاً على المؤسسة العسكرية («جيروساليم بوست» 4/ 2/ 1988)، وقال أحدهم: إن الاستيطان هو «الصنبور الذي لا يُغلق».

وترى حركة «السلام الآن» أن الدفاع عن المستوطنات والطرق إليها يفرض عبئاً أمنياً على «إسرائيل» فالجزر الاستيطانية تطيل الحدود إلى نحو ألفي ميل، أي 10 أضعاف الخط الأخضر للعام 1967، وتنشر «إسرائيل» حوالي 11 فرقة -أكثر من 27 ألف جندي- في الضفة الغربية وغزة، بالقياس إلى 8 فرق على الحدود الشمالية، فالسلام والأمن لـ6 ملايين «إسرائيلي» وثلاثة ملايين فلسطيني هما الآن رهينة لأمن 300 ألف مستوطن «إسرائيلي» في الضفة الغربية وغزة.

وكما قال سير جيو ياهني، في خطابه الذي أسلفنا الإشارة إليه، «فإن المستوطنات حوَّلت المجتمع «الإسرائيلي» في الـ53 سنة الماضية إلى منطقة خطرة.. وجيش الدفاع «الإسرائيلي» ليس سوى جناح مسلح لحركة المستوطنات.. موجود لضمان الاستمرار في نهب وسرقة الأراضي الفلسطينية».

أما عكيفا الدار («هاآرتس» 4/ 2/ 2002) فهو يشير لهم بأنهم «أقلية صغيرة، لا تؤدي أي دور حتى في محاولة تحقيق التوازن الديموغرافي مع العرب، فعدد المستوطنين، بالرغم من كل الامتيازات التي يحصلون عليها، يساوي من حيث الحجم نسبة التكاثر عند الفلسطينيين خلال عامين»، كما أنهم مجرد مرتزقة جاؤوا لتحقيق مستوى معيشي مرتفع (فأقل من 30 ألف عائلة من أصل نحو 100 ألف عائلة في المستوطنات استقروا فيها لدوافع إيديولوجية)، ويصف غي باخور («يديعوت أحرونوت» 29/ 1/ 2002) المستوطنين في غزة بأنهم «أقلية هامشية: ثلاثة آلاف شخص يقيمون بين مليوني فلسطيني ويحتجزون نحو ثُلث مساحة القطاع»، أو كما قال أحد الكُتَّاب: «لماذا يجب علينا أن ندفع كل هذا المال لحماية بضعة عائلات «إسرائيلية» أسَّست بيوتها وحقولها وسط الأراضي الفلسطينية» («هاآرتس» 19/ 1/ 2002).

لا يوجد ولا يمكن أن يكون هناك إجماع وطني في قضية المستوطنات، بل إنه لا يوجد تقارب معيَّن في المواقع.

وقد ظهر في «إسرائيل»، منذ منتصف الثمانينيات، مصطلح «dummy Settlements»، التي نترجمها بعبارة «مستوطنات الأشباح»؛ أي المستوطنات التي تُشيَّد ولا يقطنها سوى بضع أسر، ومن الواضح أن المستوطنات ستزداد بشكل شبحي، فقد كانت هناك بعض الأسر المترددة في مستوطنة يافيت، ولكن بعد مقتل روهار شورجي، أحد سكان المستوطنة (7/ 8/ 2000)، تركت زوجته وأولادها المستوطنة، ثم تبعهم آخرون، ولكن أسوأ ضربة كانت حين هاجر موسى هوفتمان وزوجته بريجيت، فهما من مؤسسي المستوطنة، وكانت الضربة من القوة بحيث إن المستوطنين لا يحبون الحديث عن هذا الموضوع، ولكن حسب ما سمعه مراسل «هاآرتس» من بعض المستوطنين، حينما عادت بريجيت من إجازة في فرنسا وجدت أن الجو في المستوطنة مختلف تماماً عما كانت تعرفه، صدمها كل شيء فجأة: الحزن من أجل شورجي -رحيل بعض العائلات التي ساعدتهم على التأقلم والاستقرار- الحزن المخيم على الجميع، حينئذ شعرت بريجيت هوفتمان أن أسلوب حياة الأسرة قد تساقط أمام عيونها فقررت الرحيل.

______________________________________

المصدر: كتاب «من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية».

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى