عاشوراء بين الذكرى والبشرى .
بقلم : د. منير جمعة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
الأيام وعاء الأحداث ، ومستودع الجهود الإنسانية بخيرها وشرها ، وحلوها ومرها ، وإنما يكتسب الزمن قيمته من قيمة الحدث الذى تم فيه. وشهر المحرم من الأشهر الحرم، التى حرم فيها القتال: ( يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)(البقرة: من الآية217).
وهو الشهر الوحيد الذى ثبتت تسميته بشهر الله ، كما جاء فى الحديث عن أبى هريرة: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم”. رواه مسلم.
وفى شهر الله المحرم يوم عظيم هو يوم العاشر منه ، وقد أطلق عليه ( عاشورا) للمبالغة والتعظيم؛ لأن فيه ذكريات غالية ، ينبغى تذكرها ، ولذا قال رب العزة لموسى علية السلام (وذكرهم بأيام الله) أى بنعم الله عليهم من النجاة من فرعون كما قال القرطبى فى التفسير (9/341) فيكون عاشوراء بناء على هذا من أيام الله الخالدة فى التاريخ فلنقف معه قليلاً
يوم الأمل:
ظل الحلم الكبير يداعب بنى إسرائيل حتى جاءهم موسى عليه السلام من مدين بغير الصفة التى خرج بها ، إذ أصبح رسولاً كريماً مكلفاً بحمل الدعوة، وإنقاذ المستضعفين: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص 5 :6).
وذهب موسى وأخوه هارون إلى فرعون ، ومعهما هداية السماء ، ودار بينهما حوار وجدال ، وتواعد فى يوم حاشد، وظهر الحق الأبلج ، ولكن هيهات للظالمين أن يقبلوه! فلم يجد موسى علية السلام بداً من أن يدعو على فرعون، ويستعدى عليه الله سبحانه بما حكاه القرآن: ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس:88) .
وكانت استجابة الله السريعة، حين (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (يونس:89) وأمر موسى ومن معه من بنى إسرائيل أن يخرجوا ليتحقق لهم الأمل الذى كانوا يتطلعون إليه ، وهو النجاة من فرعون والتمكين فى الأرض: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) (الشعراء 52 :56).
وسار موسى ومن معه ناحية الشرق ، وسرعان ما اكتشف فرعون خروجهم ، فحمله غيظه منهم على أن يتتبعهم بجنوده على وجه السرعة ، حتى أدركهم على مقربة من شاطئ اليم : ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء 61 :62) . وكانت ثقة موسى علية السلام بربه سبباً فى تمام النعمة وكمال المنة : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (لأعراف:137) .
وها نحن أولاء – فى ذكرى التمكين للمستضعفين – نترقب الخلاص لأمتنا من ذلك الليل الطويل :
لأمتنا من ذلك الليل الطويل :
يا أمتى صبراً فليلك كا * د يسفر عن صباح
لا بد للكابوس أن * ينزاح عنا أو يزاح
يوم العبرة بهلاك الظالمين:
لم يتعظ فرعون – كشأن كل الطغاة والظالمين – حين رأى آيةً عظيمة من آيات الله أمام عينيه ، فها هو ذا البحر ينشق لموسى عليه السلام ،وها هو ذا طريق ممهد يظهر فجأة فوق الماء، فتغافل فرعون عن ذلك كله وسار باطمئنان الجاهل، واستخفاف الغافل يريد اللحاق بهؤلاء الفارين ولكنه وجد نفسه فجأة فى وسط الماء ، وأدرك مصيره الأسود المحتوم فحاول أن يصنع شيئاً ، ولكن الله بعدله العظيم ، لم يمكنه من النطق بكلمة التوحيد إلا فى الوقت الضائع ، حيث لا ينفع أحد إيمانه ؛ فكان سوء الخاتمة جزاء وفاقاً لما ارتكبه من جرائم وحشية فى حق الشعب ، ومن تطاول على رب العزة حين ادعى وهو الحقير الذليل أنه الإله المعبود وهكذا تعلمنا تلك النهاية أن جرائم الطغاة لا تذهب سدى فى لحظة عابرة ، وقد قال ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: “إن جبريل عليه السلام جعل يدس فى فم فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله ، فيرحمه الله” ـ أخرجه ابن حبان والترمذى وصححه الألبانى و الأرناؤوط ـ.
وما أجمل ما حكاه القرآن العظيم عن غرق فرعون حين قال : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِين ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس 90 :92).
إن الله عز وجل لم يكتف بعقوبة الآخرة – ويا لها من عقوبة !- ولكن سبحانه عاقبه فى الدنيا أيضاً بالغرق ، وجعله عبرةً فلم يسمح لجثته بالاندثار ، بل جعل بدنه يطفو على سطح الماء ويستقر على نجوة من الأرض – كما قال المفسرون – فأخذه المصريون واحتفظوا بجسده – كعادتهم بما مكنهم الله من أسرار التحنيط وسلطان العلم ، فصار لمن خلفه آية ، ليس لجيل أو جيلين ، بل لعشرات الأجيال ومئات السنين ؛ فسبحان الذى يمهل ولا يهمل!
يوم الصوم مع الذكرى والبشرى
أراد الله سبحانه ليوم عاشوراء أن يظل بارزاً حياً ، وما ذاك – فى نظرنا – إلا لإحياء الذكرى بهلاك الظالمين ، والبشرى بحسن العاقبة للصابرين ولذا ظل هذا اليوم معظماً عبر القرون عند اليهود ، وانتقل تعظيمه إلى النصارى وإلى قريش فى الجاهلية ، إلى حد أنهم كانوا يصومونه ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يصومه فى الجاهلية أيضاً، فقد جاء الحديث عن عائشة رضى الله عنه قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش وكان النبى صلى الله عليه وسلم يصومه فى الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه” متفق عليه .
والمراد بقول عائشة : ” فلما فرض رمضان ترك عاشوراء ” أي ترك وجوبه ، أما استحبابه فظل باقيا ، بل إن النبى صلى الله عليه وسلم رغب بعد ذلك فى فضل صومه بفعله وقوله ، فعن ابن عباس رضى الله عنه قال : “ما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على الأيام إلا هذا اليوم يوم عاشوراء” متفق عليه. وبين النبى صلى الله عليه وسلم فضل صيام هذا اليوم بقوله : ” وصيام يوم عاشوراء إنى أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله ” رواه