عاممقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

علم التخطيط للمستقبل

الإمام يوسف القرضاوي رحمه الله

يدخل في فروض الكفاية اليوم: ما يسمى (علوم المستقبل) وهي التي تستشرف آفاق المستقبل في ضوء إمكانات الحاضر الظاهرة والمخبوءة والمكنونة في طاقات الأمة وعلاقاتها بما حولها ومن حولها، وما تنبئ عنه الدراسات العلمية، التي تعطي ترجيحات لما يتوقع، على سبيل الظن، لا القطع واليقين، وهذا يكفي للتخطيط للمستقبل على هذا الأساس العلمي المقدور عليه.

ولا يجوز للمسلمين أن يعيشوا بمعزل عن هذه العلوم التي تتقدم وتتطور يومًا بعد يوم، وتخدمها عقول كبيرة، ومؤسسات ضخمة في أنحاء العالم.

ولا ينبغي اعتبار ذلك من باب (التنبؤ بالغيب) الذي لا يعلمه إلا الله؛ لأن هذا في الغيب المطلق، أما الغيوب النسبية التي جعل الله للبشر سبيلًا إلى استشفافها وإدراكها بوسائل معينة، في دائرة السنن الإلهية، فليست في نطاق المحظور شرعًا، إنما هي أشبه بعلم الأرصاد الجوية، الذي يتنبأ بالحرارة والبرودة، ونزول المطر، ونحو ذلك، بناء على ظواهر جوية مشهودة، لها آثارها المعهودة، وبناء عليها يتوقع ما يحدث من تغيرات المناخ.

وإذا كان الإحصاء من دلائل الطريقة العلمية فالتخطيط كذلك، بل هو أوضح دلالة عليها، والتخطيط إنما يعتمد على الإحصاء، ويراد بالتخطيط وضع خطة لمواجهة احتمالات المستقبل، وتحقيق الأهداف المنشودة.

ومن الناس من يتصورون أو يصورون الدين في موقف المعارض أو المناقض لفكرة التخطيط العلمي للمستقبل. وهذا من أثر الفكرة القديمة التي جعلت العلم مقابلًا للإيمان، فهما ضدان لا يجتمعان، أو خطان متوازيان لا يلتقيان.

والحقيقة أن فكرة الدين في جوهرها قائمة على أساس التخطيط للمستقبل، ففيه يأخذ المرء المتدين من يومه لغده، وبعبارة أخرى: من حياته لموته، ومن دنياه لآخرته، ولا بد له أن يخطط حياته ويرسم لنفسه منهاجًا وفق عقيدته يوصله إلى الغاية، وهي رضوان الله ومثوبته.

وفي القرآن الكريم قصة جعلها الله عبرة لأولي الألباب، وهي قصة نبي الله يوسف عليه السلام، وفيها يذكر القرآن لنا مشروع تخطيط للاقتصاد الزراعي لمدة خمسة عشر عامًا، لمواجهة أزمة غذائية عامة. عرف يوسف – بما ألهمه الله, وعلمه من تأويل الأحاديث – أنها ستصيب المنطقة كلها، وقد اقترح يوسف عليه السلام مشروع الخطة، ووكل إليه تنفيذها، وكان فيها الخير والبركة على مصر وما حولها، ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف 47 – 49].

ويظن آخرون أن التخطيط للغد ينافي التوكل على الله أو الإيمان بقضائه وقدره، ولهذا يستبعدون كل الاستبعاد أن يقبل الدين فكرة التخطيط، فضلًا عن أن يوجه إليه، أو يحث عليه.

والحق أن الذي يتعمق في دراسة كتاب الله وسنة رسوله يتبين له أنهما يرفضان الارتجال والعشوائية، وترك الأمور تجري في أعنتها بغير ضابط ولا رابط ولا نظام، وبين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن التوكل على الله لا يعني اطراح الأسباب أو إغفال السنن التي أقام الله عليها نظام هذا الوجود، ولا يكاد مسلم يجهل قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وترك ناقته أمام المسجد قائلًا: يا رسول الله، أأعقل ناقتي وأتوكل أم أطلقها وأتوكل؟ فقال له: «اعقلها وتوكل».

وقال الإمام الطبري يرد على من زعم أن تعاطي الأسباب يؤثر في كمال التوكل: الحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، اتباعًا لسُنته وسنة رسوله، فقد ظاهر – صلى الله عليه وسلم – بين درعين ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك.

ومن قرأ سيرته عليه الصلاة والسلام وجد أنه كان يعد لكل أمر عدته، ويهيئ له أسبابه وأُهبته، آخذًا حذره، مقدرًا جميع الاحتمالات، واضعًا ما أمكنه من الاحتياطات، مع أنه كان أقوى المتوكلين على الله تعالى.

فهو حين أمر أصحابه – بعد أن اشتد إيذاء قريش لهم – بالهجرة إلى الحبشة، لم يكن هذا الأمر اعتباطًا، أو رمية من غير رامٍ، بل كان نتيجة معرفة بالظروف الجغرافية والدينية والسياسية للحبشة في ذلك الوقت.

وهذا يدلنا على أن الرسول وأصحابه لم يكونوا في عزلة عن العالم من حولهم، رغم صعوبة المواصلات بين الأقطار بعضها وبعض.

ويدل على ذلك أيضًا موقفهم من حرب الفرس والروم، وما كان من جدل بين المسلمين والمشركين في هذا، مما نزلت فيه أوائل سورة الروم ﴿غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم: 2 – 8].

وهكذا… فقد كانوا – وهم في فجر الدعوة، ورغم الضعف والاضطهاد – على صلة بالصراع العالمي بين الدولتين العظميين في ذلك العصر، أو المعسكرين الكبيرين الشرقي والغربي، ولمن سيكون المستقبل منهما، وهل سيبقى الوضع على ما هو عليه أو سيتغير، ولصالح أي الفريقين؟ وأوضح من ذلك موقفه – صلى الله عليه وسلم – في هجرته إلى المدينة، ففيها يتجلى التخطيط العلمي والتوكل الإيماني جنبًا إلى جنب.

فلقد أعد عليه الصلاة والسلام من جانبه كل ما يستطيع البشر إعداده من الوسائل والاحتياطات والمعينات.

ولقد اطمأن إلى المهجر الذي سينتقل إليه، بعد أن بايع المؤمنين من الأوس والخزرج بيعة العقبة الأولى والثانية، واشترط لنفسه أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم.

واطمأن إلى الرفيق الذي سيصحبه في رحلته الجاهدة بما فيها من أخطار، وما تحمله من مفاجآت، ولم يكن هناك أفضل من أبي بكر رفيقًا.

واطمأن إلى الفدائي الذي سيبيتُ مكانه، معرضًا نفسه لاحتمالات الخطر، وغدرات المتربصين، ولم يكن ثم أفضل من على ابن عمه أبي طالب فارس الإسلام لهذه المهمة.

ورتب الدليل الخرّيت الذي يدله على الطريق، وما فيه من منعطفات ومخابئ يمكن أن تضلل عنه أعين الطالبين، فكان مشركًا أمينًا، هو عبد الله بن أريقط، وهو ما أخذ منها الفقهاء جواز الاستعانة بالخبرة الفنية غير الإسلامية، مع الاطمئنان والأمان. وهيأ الرواحل التي سيمتطيها هو وصاحبه ودليله في سفرهم الطويل، واتفقوا على المكان الموعود الذي يستقلون به الركائب.

وتخير المخبأ الذي يختفي فيه أيامًا معدودة، حتى تخف حدة الطلب، ويتملك القوم اليأس، واختاره في غير طريق المدينة، زيادة في التعمية على القوم، فكان غار ثور.

وأعد فريق الخدمة الذي يأتي بالزاد والأنباء خلال أيام الاختفاء، فكانت أسماء وعبد الله بن أبي بكر، ومن بعدهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر يأتي بغنمه فيحلبون منها ويعفِّي على آثار أسماء وعبد الله.

خطة محكمة الحلقات، متقنة التدبير، ولم تترك فيها فجوة دون أن تُملأ، ولا ثغرة دون أن تُسد، ووضع فيها كل جندي في دوره المناسب لظروفه وقدراته، فدور أبي بكر، غير دور علي، غير دور أسماء، وكل في موقعه الصحيح.

ومع هذا الإحكام الدقيق، كادت الخطة تخفق، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الغار، ويقفوا على بابه، وكان يكفي لكشف الأمر وإفساد الخطة أن ينظر أحد القوم تحت قدميه، ليرى الرسول وصاحبه في الغار، وهذا ما خشيه أبو بكر، وصرح به للرسول – صلى الله عليه وسلم – حين قال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. فقال له كلمته المؤمنة الواثقة: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»؟ ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].

وهنا تجلى دور “التوكل” الحق، فبعد أن يبذل الإنسان ما في وسعه، ويتخذ من الأسباب والخطط ما يقدر عليه، يدع ما لا يقدر عليه من مفاجآت القدر لله وحده. وهنا تقع “إن الله معنا” موقعها وتؤتي أكلها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى