قسد بين تعثر المفاوضات مع دمشق والمهلة الأمريكية

خليل البطران
1. تعثر المفاوضات بين قسد وحكومة دمشق
شهدت الأيام الماضية جولة جديدة من المفاوضات بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحكومة دمشق، إلا أن هذه المحادثات تعثرت بشكل واضح بسبب الخلافات الجوهرية حول شروط الاندماج. فقد طالبت قسد بإقامة إدارة مركزية مستقلة في مناطق سيطرتها، إضافة إلى اندماجها في الجيش العربي السوري ككتلة واحدة تحت سقف هذه الإدارة، وهو ما قوبل برفض قاطع من حكومة دمشق، التي تصرّ على أن يكون الاندماج وفق رؤيتها التي ترفض أي شكل من أشكال الإدارة الذاتية أو الاستقلال السياسي.
وفي تطور جديد، أفادت مصادر محلية بأن وفدًا يمثل قوات سوريا الديمقراطية توجه مؤخرًا إلى العاصمة دمشق لمتابعة ملف المفاوضات، إلا أن الحكومة السورية رفضت استقباله، مبررة ذلك بأن اتفاقًا مبدئيًا قد تم سابقًا مع القائد العام لقسد، مظلوم عبدي، وأن لجانًا مختصة من الطرفين تتابع تنفيذ هذا الاتفاق. هذا الرفض لا يعكس فقط استياء دمشق من تكرار الشروط، بل يشير إلى رسوخ قناعة لدى الحكومة السورية بأن المرحلة لم تعد تتطلب حوارًا مع وفود سياسية، بل تطبيقًا تقنيًا لاتفاق جرى التفاهم عليه مسبقًا. ويرى مراقبون أن هذه الخطوة جاءت بعد وصول رسالة أمريكية غير مباشرة إلى دمشق، فُهم منها أن واشنطن لا تمانع دمج مقاتلي قسد في مؤسسات الدولة، شرط أن يتم ذلك ضمن رؤية الحكومة السورية، وليس وفق شروط قسد.
2. المهلة الأمريكية وتقليص التواجد العسكري في سوريا
في سياق متصل، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن نيتها تقليص تواجدها العسكري في سوريا، والإبقاء فقط على قاعدة واحدة يُعتقد أنها قاعدة التنف الاستراتيجية، الواقعة على المثلث الحدودي بين الأردن والعراق وسوريا، والتي تُعد نقطة محورية لمراقبة تحركات القوات الإيرانية في المنطقة. وتشير تقارير إلى أن واشنطن منحت قسد مهلة حتى نهاية أغسطس للاندماج ضمن الجيش العربي السوري، ما يعزز فرضية أن الاندماج المنتظر سيكون وفق شروط دمشق، وليس كما تطمح إليه قسد.
3. حكومة دمشق ترمي الكرة في ملعب قسد
وراء الإعلان الأمريكي بتقليص قواته في سوريا، تتجلى رغبة واشنطن في النأي بنفسها عن أي معركة محتملة قد تندلع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحكومة دمشق، وربما مع القوات التركية أيضًا. هذا التوجه يعكس تحولًا في استراتيجية الولايات المتحدة، التي تبدو الآن أكثر ميلاً إلى تقليص التزاماتها المباشرة، وترك المجال للأطراف الإقليمية والدولية الأخرى لمعالجة الملفات العالقة.
في هذا السياق، ترمي الحكومة السورية الكرة مجددًا في ملعب قسد، حيث تسجل عليها نقاطًا مهمة. فدمشق تدرك أن القرار النهائي داخل قسد يتأثر بوجود تيارات متشددة ترفض التسوية، وهو ما يمنح دمشق ثقة أكبر في موقفها، ويجعلها مرتاحة إلى استمرار تعثر المفاوضات، باعتبار أن الوقت يعمل لصالحها.
4. تحركات عسكرية مكثفة واستعدادات للتصعيد
على الرغم من تعثر المفاوضات السياسية، إلا أن واقع الميدان يشهد تحركات مكثفة تُظهر أن “يدًا على الطاولة ويدًا على الزناد”. ففي الوقت الذي تُجرى فيه المحادثات، تتواصل عمليات حفر الأنفاق والتجنيد الإجباري ضمن صفوف قسد، كدليل على الاستعداد لأي تصعيد محتمل. وقد شهدت منطقة رميلان، وفقًا لناشطين محليين في قرية الزهيرية، وصول مجموعة تُقدّر بنحو ألفين ومائتي مقاتل من تنظيم حزب العمال الكردستاني، ما يعزز من قدرات قسد العسكرية في المنطقة.
كما أوردت صحيفة تركية نقلًا عن مصادرها أن هناك انتقالًا لعدد يصل إلى 18 ألف مقاتل من حزب العمال الكردستاني إلى منطقة سنجار العراقية، حيث يستعدون للعبور إلى الأراضي السورية. وأكد ناشطون أن معظم هذه القوات باتت موجودة في مدينة الحسكة، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني ويُبرز استعدادات واسعة النطاق قد تقود إلى تصعيد عسكري محتمل في المنطقة.
5. تحول سوريا في علاقاتها الدولية
في السابق، كان النظام السوري تحت حكم الأسد منحازًا بشكل واضح إلى إيران والمعسكر الاشتراكي، ومنغلقًا على الغرب طوال أكثر من خمسة وستين عامًا. اليوم، تشهد سوريا تحولًا جذريًا في سياساتها الخارجية، إذ باتت منفتحة على جميع الأطراف الدولية، وخصوصًا الدول الغربية. يظهر هذا التحول جليًا في الاتفاقيات الجديدة، ومن بينها اتفاقية طاقة يُقال إن للولايات المتحدة دورًا فيها.
وفي ظل هذه التحولات، برز حديث مؤخّرًا عن دعوات أطلقها دونالد ترامب خلال ولايته السابقة، لاستثمار الشركات الأمريكية في قطاع الغاز والنفط في شمال شرق سوريا. وهو ما يعكس توجهًا أمريكيًا جديدًا يسعى للاستفادة من الموارد السورية بالتنسيق مع الحكومة المركزية، مما يشير إلى أن قسد لم تعد تملك أوراقًا قوية في يدها، إذا كان بالإمكان تحقيق المصالح الأمريكية عبر التنسيق المباشر مع دمشق.
6. مستقبل قسد في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية
عندما قررت الولايات المتحدة دعم قوات سوريا الديمقراطية، كان الهدف المعلن هو محاربة تنظيم داعش، وهو ما تحقق إلى حد كبير. إلا أن ما تلا ذلك من انسحابات أمريكية جزئية، فتح المجال أمام تدخلات تركية مباشرة في مناطق سيطرة قسد، مثل عمليتي “غصن الزيتون” و”نبع السلام”، مما أدى إلى فقدانها مساحات واسعة.
الظروف الحالية تعكس حقيقة مؤلمة لقسد، إذ إن المعركة القادمة باتت شبه محتومة، وقسد تدخلها في موقف أضعف من أي وقت مضى، خصوصًا مع تراجع الحاضنة الشعبية في المناطق ذات الغالبية العربية، وهو ما يزيد من هشاشة موقفها ويضعف قدرتها على الصمود في مواجهة دمشق أو أنقرة.
7. ختام: بين الحل السياسي والتصعيد العسكري
تُظهر التطورات الأخيرة في سوريا أن معركة قسد ليست فقط سياسية، بل امتداد لتوترات عسكرية وأمنية متصاعدة، تُحكمها مصالح إقليمية ودولية متشابكة. تعثر المفاوضات مع دمشق، وإصرار الجناح المتشدد ضمن قسد على رفض أي تسوية سياسية، يعكس مدى تعقيد المشهد الداخلي. في الوقت ذاته، فإن تقليص الوجود الأميركي يضع قسد في موقف هش، يجعلها تحت ضغوط متزايدة من حكومة دمشق وتركيا، وسط استعدادات عسكرية تُنذر بتصعيد وشيك.
وفي هذا المناخ المتوتر، تبدو فرص الحل السياسي السلمي محدودة، بينما تتسع مساحة الخيارات العسكرية. ويبقى مستقبل قسد والمنطقة مرهونًا بمدى قدرة الأطراف المختلفة على التوصل إلى تفاهمات توازن بين المصالح الأمنية والسياسية، أو الانزلاق إلى مواجهة لا رابح فيها.