كيف نميز البدعة الحسنة من البدعة السيئة؟
ثبت أن البدعة مفهوم “وصفي” (descriptive) لا “معياري” (normative or evaluative)، وأن العموم الوارد في حديث “كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة” ليس على ظاهره باتفاق العلماء؛ فقد يقال إن المقصود كل بدعة “سيئة”، أو كل بدعة “في العبادات”، أو غير ذلك. وقد جرى عدد من العلماء على تقسيم البدعة تقسيمات شتى ترجع إلى القسمة الثنائية التي وردت عن بعض الصحابة وعن الإمام الشافعي نفسه، وهي أن البدعة حسنة وسيئة، وهذا يعني أن “البدعة” بحاجة إلى صفة تقويمية إضافية تنقلها من مجرد الوصف إلى التقويم فتقول “بدعة حسنة” أو “بدعة سيئة”، وهذا التقسيم هو الجاري وفق قانون الفقه على اختلاف مذاهبه كما سأوضح.
ثمة أحاديث هي أصلٌ في التمييز بين حسن البدعة وسيئها. أبرزها حديثان؛ الأول: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”، والثاني: “من رغب عن سنتي فليس مني”. وكلا الحديثين يؤكد أن “البدعة” مفهوم وصفي لا معياري؛ فهما نصان في أن مطلق الإحداث ليس حكما؛ فلا يُحكم على فعل مُحدث بأنه محرم أو مكروه؛ لمجرد أنه “مُحدث”، بل لا بد من علة يُعلل بها.
فالحديث الأول يضع معيارا للمذموم من المحدثات، يتناول صفة الفعل نفسه، وهي “ما ليس منه” (أو فيه كما في بعض الروايات). ويشمل هذا صورتين: الأولى: ما جاء على خلاف السنة، ومخالفة الفعل المُحدث للسنة مخالفةً صريحة كافٍ في رده، وهذا محل اتفاق. الصورة الثانية: الفعل المُحدث الذي لا يندرج تحت أصل عامّ؛ فالعمومات (أو المبادئ العامة) يندرج تحتها ما لا يُحصى من الصور؛ فإن لم يندرج المُحدث تحت أصل شرعي كان مردودا.
أما الحديث الثاني فيضع معيارا يتصل بقصد الفاعل المُحدِث للفعل. فالإحداث يكون مذموما؛ إذا قُصد به الرغبة (عن) السنة النبوية، أي الزهد بها أو الاستقلال لها، كما في حديث الرهط الثلاثة الذين جاؤوا إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم. “فلما أُخبروا، فكأنهم تَقالّوها”. بل إن الرغبة عن السنة قد تنقل النقاش من ميدان الفقه إلى ميدان العقيدة؛ فيؤثر ذلك في إيمان المرء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو النموذج الكامل الذي بلغ الكمال في أفعاله، ولذلك كان أبلغ تعريف للسنة هو “ما رُسم ليُحتذى”.
وقد تتبعتُ عبارات العلماء في تحديد معيار البدعة المحمودة فوجدتها لا تخرج عن مدلول الحديث الأول المذكور هنا. وجِمَاعها -من جهة الإيجاب- ما وافق السنة، أو كان داخلا تحت أصل عامّ فيها يقاس عليه أو يَرجع إليه، أو ما كان موافقا لقواعد الشريعة. بل ورد في كلام الإمام الشافعي أن البدعة المحمودة معيارها أن يكون الفعل خيّرا في ذاته، وألا يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا. وقد جمع الإمام أبو شامة بين شرطي الإيجاب والسلب، فاشترط أن يوافق الفعل القواعد من جهة، وألا يلزم من فعله محظور شرعي من جهة أخرى. وقد تابعه على ذلك الحافظ السيوطي. أما معيار البدعة المذمومة فهو ما أُحدث وخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا، أو ما ليس له أصل من الشريعة يرجع إليه أو ما خالف أصول السنن، أو ما كان بخلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وتوضح هذه المعايير أن مرجعية تقويم الفعل المُحدث تقع خارج كونه مجرد فعل لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يفعله. فمعيار تقويم الفعل المحدث لا يقتصر -فقط- على ورود النص عليه، أو على مجيء فعل نبوي معهودٍ فيه، أو حتى على مجرد كون النبي لم يفعله. وهذا يدفعنا إلى توضيح مسألتين في غاية الأهمية لمنهجية تقويم البدعة وهما:
المسألة الأولى: مفهوم السنة التي تُعتبر مخالفتها بدعة
ولبيان ذلك أذكر 3 أمور:
- الأول: أن مجرد فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعد سنة؛ لأن أفعال النبي لا صيغة لها فهي ليست كأقواله، ومن ثم يحتمل الفعلُ النبوي احتمالات عدة. فقد يكون خاصّا به صلى الله عليه وسلم فلا يجوز التأسي به، أو فعلا جِبِليّا لم يرد على سبيل القُربة، أو فعلا جاء بيانا للأمر القرآني فيكون حكمه حكم المبيَّن، أو امتثالا لأمر إلهي سابق فيكون حكمه حكم الأمر الممتَثَل له، وقد يكون فعلا مجردا عن القرائن السابقة؛ بحيث فعله ابتداء. فهنا يقع الخلاف بين العلماء: هل تشترك معه فيه أمته أو لا؟. والغرض من هذا كله بيان أن مجرد فعل النبي ليس دليلا على كون الفعل سنة، بل هو خاضع للبحث والتقويم؛ لمعرفة ما إذا كان قد رُسم ليُحتَذى أو لا. بل إن الإمام الشاطبي ميز بين المداومة على الفعل وعدمها؛ فما فعله النبي كثيرا أو غالبا هو الذي يقال إنه سنة.
- الثاني: أنه إذا كان النقاش السابق يتناول الفعل النبوي الصريح، فكيف بالترك النبوي الذي لا يدل -بذاته- على شيء؛ فضلا عن أن يُحتج به على كون فعل ما بدعة ضلالة؛ لمجرد أنه لم يفعله النبي؟!. ولكن من توسع في مفهوم البدعة فجعل كل بدعة ضلالة بإطلاق، كان لا بد له من أن يتوسع -أيضا- في الاستدلال باعتبار مجرد ترك النبي لفعل ما دليلا على حظره. وهذا لا يستقيم؛ رغم ضرورة الإقرار بأن كل أفعاله -صلى الله عليه وسلم- فاضلة وكاملة، وهذا يعيدنا مجددا إلى الحديث الثاني المذكور سابقا؛ فالإحداث لا يكون بقصد الزيادة على النبي أو بلوغ درجة أكمل من فعله؛ لأن هذا سيخرج النقاش من باب العمليات إلى باب الاعتقادات.
ولنضرب لمفهوم السنة مثلا من المذهب الحنبلي تحديدا. إن معتمد المذهب الحنبلي أن التلفظ بالنية مستحبّ؛ رغم أنه لم يكن من هدي النبي ولم يفعله، أي أنه فعل مُحدث (أو بدعة)، بل إن كلا من الإمام ابن مفلح والإمام المرداوي -وهما من كبار أئمة المذهب الحنبلي- قالا عن النية “ويسن النطق بها سرّا”. فجعلا النطق بالنية سنة، ولم يفرقا بين “المسنون” و”المستحب”. فمثل هذا الفعل المُحدث -وهو عبادة- صار مستحبّا أو سنة؛ لأنه يَصدق عليه معيار البدعة المحمودة؛ إذ النية أصل من أصول الدين، والتلفظ بها أعون على موافقة اللسان للقلب، وتتعين في حق الموسوس. فهو إحداث هيئة تعبدية داخل تحت أصل عام، ويحقق مصلحة شرعية للمتعبد. ولكن هذا المسلك لم يُعجب بعض علماء الوهابية المعاصرين فضعفوا معتمد المذهب الحنبلي هنا؛ رغم أن استحباب النطق بالنية هو -أيضًا- مذهب الشافعية، بل إن بعض الفقهاء أسرف فذهب إلى أنه واجب!.
- الثالث: أن إحداث هيئات وصور داخلة تحت العموم والمبادئ العامة التي قررها الشارع، من شأنه أن يستوعب محدثات تدخل تحت الأصل العام ولا تخالف سنة ولا يترتب عليها محذور كما في التلفظ بالنية مثلا. وقد راعى المحدثون فكرة وجود “الأصل” أو عدمه في تصحيح بعض الأحاديث، فيقولون هذا لا أصل له وذاك له أصل؛ بالرد إلى عمومات السنة أو مبادئ عامة قررتها أو ما عرفوه وخبروه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ينسبون ذلك للنبي من قوله دون بأس؛ رغم ضعف سنده، وهذا يؤكد -مجددا- نفي إرادة العموم عن حديث “كل بدعة ضلالة”.
المسألة الثانية: تنوع مصادر التشريع
فمصادر التشريع أوسع من مجرد تحري الفعل النبوي، وعلى هذه الرؤية الواسعة لمصادر التشريع يتحدد مفهوم “السنة” التي تُحتذى عند الفقهاء. فالبدعة قد تكون حسنة وقد تكون سيئة. ومعيار الحسن والقبح مصادر عديدة متنوعة، بعضها نصي وبعضها غير نصي، فتشمل: القرآن والسنة وأفعال الصحابة والآثار والإجماع والقياس، والمصالح المرسلة والاستحسان والعرف، وغير ذلك. بل إن الفقه المذهبي ولّد أحكاما كثيرة بالاستناد إلى “التخريج” (أو القياس) على نصوص الإمام أو المذهب، وهذا كله لا يستقيم مع اعتبار أن “كل محدثة بدعة” بإطلاق.
يجب -إذن- أن يتناول النقاش حول الأفعال المُحدثة مصادر تقويمها وكيفية تعليلها: هل تنسجم مع خطاب الشارع أو لا؟. فهذا الذي يُظهر مدى الفقاهة
، لا الجمود الحرفي على ما ورد؛ مع تجاهل عمومات النصوص ومبادئ الشريعة وقواعدها التي يندرج تحتها ما لا حصر له من الأفعال التي قد تأتي على غير مثال سابق، ولكنها قد تدخل تحت أصل أو مبدأ عام مَرعيّ للشارع. ومن ثم كان الإمام العز بن عبد السلام شديد الحصافة حين أجرى البدعة على الأحكام الخمسة. فالعز الذي وصفه الإمام النووي بأنه “الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته”، التقط أن قانون الفقه يقتضي أن البدعة لا تخرج عن أن تكون موافقة للسنة أو مخالفة لها. وإذا لحظنا درجات الموافقة والمخالفة وجدنا أن البدعة ترجع -في واقع الأمر- إلى الأحكام الخمسة (الواجب والمحرم والمندوب والمكروه والمباح)؛ وفق درجة قرب الفعل المُحدث من السنة أو بُعده عنها. والله أعلم.