منهج الرسول في غرس وبناء وتربية القيم
د. إبراهيم الديب
أولا: المنهج
هو الطريقة الصحيحة المحددة الواضحة للوصول إلى الهدف بأقل تكلفة، في قوله تعالى: “لكل جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً” (المائدة). والمعنى المراد هنا هو طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كنموذج قيمي وأخلاقي أمثل من عدة جوانب.
ثانيا: رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي يجب أن ندرك النظر إليه من عدة وجوه:
1- أنه خاتم وسيد وإمام الأنبياء والمرسلين.
2- النموذج المعياري البشرى الأمثل للناس كافة، وأفضل إنسان على مدار الحياة كلها.
3- أفضل من التزم بالقيم الربانية الحضارية كمّا وكيفا، حيث بلغ في اكتساب وتطبيق القيم لأعلى الدرجات الممكنة للبشر، حتى بلغ الشروط المعيارية الخمسة لتحقيق القيم:
الشرط الأول: الفهم والممارسة الصحيحة للقيمة.
الشرط الثاني: الحرية والإرادة في اكتساب وممارسة القيمة دونما ضغط أو إكراه.
الشرط الثالث: طلاقة ممارسة القيمة زمانا ومكانا وظرفا.
الشرط الرابع: المحافظة على استمرارية ممارسة القيمة.
الشرط الخامس: فاعلية أثر القيمة في الفرد والمجتمع في نمو تفكيره وسلوكه وقدراته وأدائه وإنجازه وتأثيره البنائي الفردي والعام، لتختلق بعقله وروحه ونفسه ودمه ولحمه وعظمه بطلاقة مع كل الناس، بكامل حريته وإرادته صلى الله عليه وسلم، وفي كل الأوقات والظروف، وأصبحت سلوكا وسمتا مميزا له بين الناس، فمنحه الله تعالى شهادته له صلى الله عليه وسلم “وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ” (القلم: 4)، وفي الوقت نفسه، هي شهادة الله تعالى على الناس إلى يوم القيامة؛ بواجب محاولة الالتزام بهذا النموذج من الرقي البشرى القيمي والأخلاقي والاقتراب منه قدر المستطاع.
4- كمعلم ومربٍ للقيم القرآنية السماوية وبنائها وتعزيزها في عالم البشر، وتحويلها إلى سلوك عملي وثقافة وهوية قرآنية حضارية بنائية للفرد والأسرة والمجتمع والأمة الإسلامية والبشرية.
5- كصاحب رسالة خاتمة للناس كافة عنوانها وشعارها وموجزها “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ”.
ثالثا: رحلة القيمة حتى تصبح خلقا ومبدأ رحلة القيمة تبدأ من كونها فضيلة نظرية كمفهوم مذكور في شكل حبر على ورق، مجرد نظري، أي مجرد من الفعل العملي، والأثر النافع في واقع الحياة على صاحبه وفي المجتمع، ثم يترجمها المفكر التربوي إلى واجبات عملية قابلة للتطبيق والتعلم والقياس في واقع الحياة، وينظمها ما يعرف بدليل السلوك التربوي للقيمة، ليتم تعليمها للأفراد نظريا ثم تدريبهم على تطبقيها سلوكا عمليا، وتعزيزها في نفوسهم حتى يحافظوا على ممارستها بشكل صحيح ودائم وفي كل الظروف ومع كل الخلق، حتى تصبح خلقا مميزا لهم وثقافة حياة وهوية خاصة مميزة لهم يشهد به الناس من حولهم، لتنتشر وتتمكن في ثقافة الأسرة والمؤسسة والمجتمع وتتحول إلى مبدأ لازم يتم تدوينه داخل اللوائح والنظم والقوانين المؤسسية، وضمن التقاليد الأساسية للأسر التربوية المحافظة العريقة.
رابعا: منظومة التربية القيمية
أمرنا الله تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتخاذه أسوة والاقتداء به وحسن اتباعه صلى الله عليه وسلم في كل كبيرة وصغيرة، فقال عز وجل:
– قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ” (آل عمران).
– “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْءَاخِرَ” (الممتحنة).
– “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”.
ومن أول وأهم وأعظم السنن أثرا وفاعلية وثمرة وأجرا في الدنيا والآخرة، والتي يجب اتباعها، هي سنته ومنهاجه صلى الله عليه وسلم في رسالته الأساسية التي جاء من أجلها في إتمام مكارم أخلاق البشر وتعزيز قدراتهم البشرية؛ لأداء مهمتهم في عمارة الكون واستخلاف الله تعالى في الأرض بتنفيذ مهمة التربية القيمة وبناء القيم وتمكين أخلاق القرآن الكريم.
مثال توضيحي:
– عندما نقول طبيب فمهمته علاج المرضى، ولذلك عندما نقول اتباعه أي اتباعه في علاج المرضى.
– عندما نقول مزارع فمهمته زراعة المحاصيل، ولذلك عندما نقول اتباعه أي في طريقته في الزراعة.
– عندما نقول معلم فمهمته التربية والتعليم، واتباعه يكون في طريقته المهنية في التربية والتعليم، فعندما نذكر محمد صلى الله عليه وسلم فمهمته هداية البشر وتعليمهم القيم. لذلك عندما يأمر الله تعالى باتخاذه أسوة وقدوة، أي في منهاجه في مهمته الكبرى لهداية البشر وتعليمهم القيم حتى تصل لدرجة الأخلاق.تتكون منظومة التربية القيمية من عناصر خمسة أساسية:
1- المربي: الأم والأب للأبناء، والمعلم للتلاميذ، والمشرف التربوي لأعضاء النادي والمركز، والمدير لموظفيه، ورئيس العمال لمرؤوسيه من العمال، ورئيس المدينة والمحافظة والدولة للمواطنين.
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم كمربٍ:
ستة مبادئ توجز منهج الرسول كمرب للقيم تجعل منك مربيا محترفا للقيم
1- النموذج العملي المعياري من نفسه: “ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم”، و”صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا”، “فإذا حضرتِ الصلاةُ فليؤذِّن لكم أحدُكم، وليؤمُّكم أكبركم”، و”صلوا كما رأيتموني أصلي”..
ويشير إلى النماذج والقدوات البارزة في تطبيق القيم، في قيمة سلامة الصدر وصفاء السريرة وحب الخير للناس “يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة”، وفي التعريف بنموذج قيمة العلم “حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس”.
2- العملية والإجابة عن سؤال الكيف، بتركيزه صلى الله عليه وسلم على بيان ماهية القيمة وكيفية ممارستها، كما في “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِقِ الناس بخُلُقٍ حسنٍ”، وحديث “أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا”.
3- التبسيط والتدرج لمفاهيم القيمة وواجباتها العملية، كما قوله لابن عباس وهو غلام: “يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم: أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف”، وكما قال صلى الله عليه وسلم: “لا يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة، يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أساؤوا أن لا تَظلِمُوا”.
4- استثمار الفرصة وتوظيف البيئة والحدث، كما في مشاهد “وقفّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَزْبَلَةٍ فَقَالَ: “هَلُمُّوا إلى الدُّنْيَا، وَأَخَذَ خِرَقاً قَدْ بَلِيَتْ عَلَى تِلْكَ الْمَزْبَلَةِ، وَعِظَاماً قَدْ نَخِرَتْ، فَقَالَ: هَذِهِ الدُّنْيَا”.. ومشهد “إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحاً طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً مُنْتِنَةً”.
5- التكرار للبيان والتأكيد والتذكير، كما في أن “رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارا، قال: لا تغضب”.
6- المتابعة والتقويم كما في سؤاله للصحابة بعد صلاة الفجر: “مَن أصبح منكم اليوم صائماً؟”، قال أبو بكر: أنا، قال: “فمَن تَبِعَ منكم اليوم جنازة؟”، قال أبو بكر: أنا، قال: “فمَن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟”، قال أبو بكر: أنا، قال: “فمَن عاد منكم اليوم مريضاً؟”، قال أبو بكر: أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخل الجنَّة”.
2- منهج القيم والمحتوى القيمي المُستهدف تربية الأفراد عليه، والمُخرَج علميا من قبل مراكز إنتاج المعرفة المتخصصة في القيم والهوية باسم “دليل السلوك التربوي” (راجع أدلة السلوك التربوي لقيمي هويتي على شبكة الإنترنت).
فلا بد للمربي من دراسة واستيعاب البناء المفاهيمي للقيم التي سيُربي عليها، وماهية وعناصر القيمة، بامتلاك الدليل السلوكي لكل قيمة؛ الذي يبين عناصر القيمة الأربعة الأساسية وتطبيقاتها السلوكية الاثنتي عشرة، ليتم تناولها واحدة تلو الأخرى مع المتربي بشكل تربوي علمي وعملي شامل ومتكامل وصحيح.
مثال 1: قيمة حب الله تعالى تتكون من أربعة مفاهيم كبرى هي: معرفة الله تعالى، وذكر الله تعالى، وحب الله تعالى، وطاعة الله تعالى، تتبعها اثنتا عشرة مهارة تفصيلية تجيب عن سؤال كيفية ممارستها عمليا.
مثال 2: قيمة حب رسول الله ص تتكون من فهم طريقة تفكيره ص، ومعرفة سننه، وطاعته واتباعه والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
مثال 3: قيمة الصدق تتكون من صدق النية وصدق العزم وصدق العمل وصدق اللسان.
مثال 4: قيمة الاحترام تتكون من احترام الذات واحترام الدين واحترام الأفكار واحترام النظم والممتلكات العامة.
مثال 5: قيمة التسامح تتكون من استيعاب الآخرين والعفو عند المقدرة والرحمة بالآخرين وقبول أعذار الناس.
3- طرق وأساليب التربية القيمة التفاعلية بين المربي والمتربين، من أنشطة وفاعلية فردية وجماعية وما تتطلبه من وسائل وأدوات ودعم فني، والتي يجب أن تتسم بالتنوع والمواءمة والعملية والتشويق والإثارة والفاعلية، حيث استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كافة الإمكانيات المتنوعة المتاحة له في بيئته في حينها، من النموذج القدوة بالتعايش مع الناس فكلما زادت المعايشة زاد التأثير، وباستخدام السؤال والحوار والنقاش والموقف العملي والفعاليات المعدة مسبقا، كما في حديث شرح الإسلام والإيمان والإحسان بمشاركة سيدنا جبريل عليه السلام، وكما في فاعليته بالسمر مع الصحابة وإطلاقه صلى الله عليه وسلم لفزورة النخلة، حينما “قالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَوْماً لأَصْحَابِهِ: أَخْبِرُونِي عن شَجَرَةٍ، مَثَلُهَا مَثَلُ المُؤْمِنِ فَجَعَلَ القَوْمُ يَذْكُرُونَ شَجَراً مِن شَجَرِ البَوَادِي. قالَ ابنُ عُمَرَ: وَأُلْقِيَ في نَفْسِي، أو رُوعِيَ، أنَّهَا النَّخْلَةُ، فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا، فَإِذَا أَسْنَانُ القَوْمِ، فأهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا سَكَتُوا، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هي النَّخْلَةُ”، كما استخدم أيضا صلى الله عليه وسلم الرسم على الرمال للبيان والتوضيح.
4- البيئة التربوية النوعية، الأسرة والمدرسة والنادي والمؤسسة والمجتمع، والتي تمثل المحضن الأساس الذي يشكل ويصنع المتربي بشكل تلقائي، خاصة وأن علميْ التربية والاجتماع يقرران حقيقة أن الإنسان ابن بيئته. وعلى مستوى الأسرة تتكون من الأشخاص والمكان والنظم والمبادئ والقوانين والثقافة الخاصة بالأسرة والأنشطة والفعاليات المتنوعة للأسرة.
5- المتربي، الذي يجب مراعاة الخصائص الفطرية العامة والفروق الفردية الخاصة لنوع المتربي، كذكر أم أنثى، وشريحته العمرية، ومواهبه وميوله الفطرية، وقدراته الذهنية، واحتياجاته ورغباته. وكل ذلك كمدخل أساسي لعملية التربية القيمية.
خامسا: واجبنا العملي نحو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية القيمية
الواجبات العملية للفرد والأسرة والمدرسة والنادي والمؤسسة والوزارات العاملة في مجال بناء الإنسان؛ التربية والتعليم والبحث العلمي والتعليم الجامعي والثقافة والإعلام والشباب والرياضة والأوقاف والشؤون الاجتماعية، وجميع هؤلاء يتحملون مسؤوليتهم في التربية القيمية كفرض عين في حدود المسؤوليات والصلاحيات الخاصة بكل منهم.
1- معرفة وفهم منهاجه صلى الله عليه وسلم في التربية القيمية، وفهم فلسفته وأبعاده التربوية.
2- الاقتداء بمنهج الرسول ص في التربية القيمية والجمع بين أجرين؛ أجر التزام السنة، وأجر التربية القيمية.
3- امتلاك الدعم الفني اللازم للتربية القيمية، خاصة أدلة السلوك التربوي لكل قيمة.
4- مدارسة أدلة السلوك التربوي للقيم وممارستها عمليا، وتقديم النموذج الحقيقي للمتربين وتنفيذها تربويا معهم.5- التعاون والتنسيق مع شركاء العملية التربوية، الأم مع الأب والأخ الكبير في المنزل، ومع المدرسة ومع وسائل الإعلام والثقافة والأندية والمراكز الشبابية.