عاممقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

منهجيات الصراع

د. جمال عبدالستار

منهجيات الصراع ليست تنظيرًا فكريًا باردًا، بل هي فرقان بين أمة حية تعرف موقعها من البلاغ وحقائق التدافع، وأمة غافلة تحتمي بالتمنّي وتنسحب من ميادين الفعل، لتترك العالم فريسة للأهواء والباطل، ثم تستغرب الهزيمة وتبكي على الأطلال، وهنا أذكر بعض تلك المفاهيم لنستضيء بها في عتمة المحن.

أولاً: حين تكون الأمة فاعلة لا متفرجة

لم تكن الأمة في تاريخها الحي مجرد متفرج على حركة الفعل، ولا هامشًا على مدافعة الظلم، كما هو حالها في أزمنة الغثائية والخذلان، بل كانت منذ لحظة التأسيس الأولى تدرك أنها ليست وجودًا عابرًا على ظهر الأرض، وإنما خلافة لله تعالى، تحمل أمانة الدين في شقيه: عبادةً شعائرية وشهودًا عمرانيًّا، وتعلم أنه لا قيام لأحد الشطرين دون الآخر، فالشعائر من غير إعمار جفاء، والإعمار من غير توحيد وعبوديةٍ خواء، ولذلك ظلّ الحضور الفاعل سمت الأمة، ولو كانت قلة، وظلت المبادرة معلمًا من معالم نهضتها، وركنًا من أركان رسالتها.

ثانياً: وهم الحدود وتآكل رابطة الإيمان

لقد تفرقت الأمة في مراحل من تاريخها، لكنها لم تبلغ من التمزق والشتات ما بلغته اليوم، حين اتخذت من الحدود المصطنعة التي رسمها أعداؤها سياجًا للعقيدة، وحجابًا للأخوة، وسقفًا للولاء والبراء، حتى غدت الأعلام والخرائط والمسمّيات أوثانًا تُوالى وتُعادى عليها، وتُراق لأجلها الدماء، وكأن آية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ قد نُسخت من الكتاب، أو طُويت في سجلّ النسيان!

أضحى المسلم غريبًا في ديار إخوانه، مشكوكًا في ولائه لأنه لا يحمل “الرقم الوطني” ذاته، أو لا ينتمي إلى “التراب المقدّس” الذي رسمته معاهدة استعمارية قبل قرن، وكأن الرابطة الإيمانية باتت دون قيمة في ميزان العلاقات والانتماء.

وتحوّل كثير من بلاد الإسلام إلى حظائر محاصرة، سُجنت شعوبها داخل خطوط رسمها العدو، وحدد نظامها، بل بات في أحيان كثيرة هو من يُعين حاكمها ويصادق عليه، بينما تُصادر إرادة الشعوب، ويُغلق باب الشورى، وتُجتث أصوات المصلحين من الجذور، في صمتٍ دوليّ، وتواطؤ إقليميّ، وغفلة أممية شاملة.

لقد نجح العدو في تقطيع جسد الأمة، لكنه لم ينجُ بعد من يقظة القلوب المؤمنة التي لا تعرف وطنًا أوسع من الإيمان، ولا رابطة أقوى من العقيدة، ولا قدسية تعلو على وحدتها الجامعة في كتاب ربها وسنة نبيها، وما تزال هذه القلوب تُبقي جذوة الأمل حيّة في إعادة ترتيب الصف، وتجاوز هذا الزمن الذي استُبدلت فيه الهُويات الربانية بقوالب جغرافية ضيقة، لا تليق بأمة حملت مشعل الهداية للعالمين.

ثالثاً: مفارقة التاريخ: حين يُطبع مع من أعلن احتلاله!

لا أجد في سجلات التاريخ، ولا في ذاكرة الأمم، عدوًا يتجرأ على رسم خريطة لاحتلال أرض غيره، ثم يعلنها على الملأ بلا مواربة، ويروّج لها في كل محفل، منابر دولية كانت أو محلية، ويجعلها هدفًا معلنًا من “النيل إلى الفرات”، بل ربما لما هو أوسع وأبعد، ثم يجد ـ ويا للعجب! ـ من أبناء تلك البلاد من يصفّق له، ويوقّع معه اتفاقات، ويقيم له السفارات في عواصم المدن الجريحة! أي اختلال في الموازين هذا؟!

إنهم لا يكتفون بالتطبيع الدبلوماسي، بل يُغدقون عليه المؤن، ويمدّونه بالغاز، ويزوّدونه بالعتاد، ويجودون عليه بالماء في زمن العطش القومي، بل تجاوز الأمر ذلك ليغدو بعضهم حارسًا على حدوده، وسدًّا في وجه إخوانهم من المقاومين الذين رفعوا لواء العزّة وردّ العدوان!

لكن المصيبة لا تقف هنا، بل تتجاوز حدود المعقول، حين نرى بعض أنظمة تلك البلاد تُجرّم مقاومة المحتل، وتعتقل الأحرار، وتلاحق الداعين إلى الجهاد، وتزجّ بالكرام في غياهب السجون لأنهم تجرأوا على قول الحق، أو رفضوا الخضوع لمشروع الاحتلال المغلّف بالدبلوماسية!

أي مفارقة هذه التي لم يسجل لها التاريخ مثيلًا؟

أن تُستبدل البوصلة من مقاومة العدو إلى حمايته، ومن الوقوف مع المظلوم إلى معاداته، ومن نصرة الدين إلى نصرة عدوّه… فذلك من أشدّ صور الانحراف السياسي والانكسار الأخلاقي، ودليل على عمق الأزمة التي تُكبّل الإرادة وتُعطّل فريضة التحرير، وتستبدل شرف الجهاد بخزي الموالاة.

رابعاً: الأمة بين خندقها ومخالب المشروعين

ها هي الأمة، بعد أن كانت منارة العالم، تغرق اليوم في خنادق العزلة، كل خندق منها مدهون بلون، ومكتوب عليه شعار، لكنه لا يقيها برد الشتات، ولا يصدّ عنها رياح العدوان.

وفيما هي منشغلة بخلافات الداخل، تترصّدها من الخارج مشروعان شيطانيّان، لا يخفيان عداوتهما، بل يعلنانها بوقاحة على مرأى العالم، ويسجلان في سيرتهما الذاتية فصولًا سوداء من احتلال الأرض، وسفك الدم، وانتهاك العرض، ونهب الثروات، وتشويه العقيدة، ونشر الفجور باسم “التحرير” أو “التحديث”.

لكلٍّ من هذين المشروعين طريقته وأدواته، وقد يتنازعان على الهيمنة، أو يتصادمان على المصالح، لكنهما يلتقيان على هدف واحد: الهيمنة على الأمة وتغيير هويتها ، فلا قيام لمشاريعهما إلا على أنقاضنا، ولا نجاح لخططهما إلا بإجهاض مشروعنا.

وما لم تخرج الأمة من خنادقها الضيقة إلى فضاء مشروعها الحضاري الجامع، وتُدرك حجم الخطر الذي يُطوّقها من كل جانب، فإنها ستظل تنزف… لا من جراح أعدائها فحسب، بل من خذلان ذاتها أيضًا.

ليس كل من صاح في وجه العدو أخًا، ولا كل من أطلق رصاصة يُعدّ في صف الأمة.

كثيرون يُسارعون إلى مخاطبة المرجعية الشيعية وكأننا وإياهم في خندقٍ واحد، أو يهتفون على منصّات التواصل بـ”شكرًا يا شيعة” كلما أصابت العدو نازلة، وكأن التاريخ قد طوى صفحاته، ووقائع الأمة قد مُحيت من ذاكرة الوعي، وما هذه إلا بلاهة فكرية، وتخلفٌ في ميزان الفهم والتمييز؛ فهؤلاء لم يكونوا في خندق الأمة يومًا، بل كانوا – ولا يزالون – يفعلون ما لا يفعله العدو الصهيوني نفسه!

اسأل بغداد كم مزقتها الطائفية؟ واسأل دمشق كم أزهقت من الأرواح على مذبح الحقد؟

اسأل اليمن عن الجامعات التي أُغلقت، والمدارس التي طُمست، والبيوت التي سُويت بالأرض، والأعراض التي لم تُصن!

اسأل لبنان عن دولة ابتلعها حزب، وعن وطن اختُزل في ميليشيا، وعن مقدرات أمة عُبث بها باسم “المقاومة”، بينما يُذبَح الأبرياء على أبواب المراقد!

ومع ذلك، لسنا ممن يكيل الكفر جزافًا، ولا يمنع نفسه من الفرح إذا أصاب العدو اللدود كسرٌ أو نكبة فالله بشّر بنصر الروم على الفرس، والروم يومها لم يكونوا من أهل التوحيد، بل عبدوا المسيح، واتخذوا لله ولدًا!!: قال سبحانه وتعالى: ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

فليس على من يفرح لكل مصابٍ يلحق بالصهاينة المحتلين من حرجٍ، ولا يعني فرحه تأييدًا لمن أجرى الله على يديه ذلك المصاب، وإن كان فاجرًا أو ملحدًا.

وليس على من ابتهج بهلاك من أخرجه من دياره، وسفك دماء أهله، وطعن في دينه، وتطاول على آل بيت نبيه -صلى الله عليه وسلم- من حرجٍ، ولا يُحسب فرحه اصطفافًا مع المعتدين.

الحرج الحقيقي، والذنب الأثيم، هو في التفريط بنصرة فلسطين، والتقصير في إعادة الأمة إلى مشروعها الحضاري، ووحدتها الإيمانية، ورابطتها المتينة التي لا قوام لها إلا بها

ذاك هو الخندق الذي يجب أن تُصوّب إليه البوصلة، وتُنفق فيه الطاقات، ويُميَّز فيه الصفّ، وبه يُعرف الصديق من العدو، والناصر من المتاجر.

النداء الأخير

هل يمكن لهذه المحنة العميقة أن تُوقِظ في وجدان الأمة وعيًا جديدًا، يدركُ به الجميع ضرورة الوحدة في آمالها وآلامها، في حاضرها ومستقبلها؟ هل يمكن أن تتحول هذه المحنة من بين الركام والحطام إلى مولد أمة فتية تنبثق من جديد، في بعثٍ وقيامةٍ تملؤها الحياة والعزيمة؟

هل تملك الشعوب قوة النجاح فيما عجزت عنه الأنظمة؟ هل تستطيع أن تجمع صفوفها، وتستجمع قواها، وتُحيي في الأمة روحًا جديدة، وفكرًا ناضجًا، ورابطةً صادقة؟ جيلاً لا تصنعه الكلمات، بل تصنعه المحن والأحداث التي صقلته وأشرفت عليه؟

إن أمتنا لا مكان لها في عالم متغير، ما لم تفق من غفلتها، وتعود إلى مصدر وحدتها، فتُعزز ثوابتها الراسخة، وتجمع شتاتها تحت راية بيضاء نقية، راسخة على أسس الفهم الصحيح، وعلى إخوة الإسلام الحقيقيّة الفاعلة.

وينهض علماؤها الأجلاء، ينفضون عن الأمة غبار القوميات والأيديولوجيات والحسابات الضيقة، ويرفضون مطاردة الأمجاد الشخصية، ليهبّوا الأمة بمشروع حضاري قرآني شامل، يعيدها إلى رشدها، ويجدد دينها وهويتها، ويبعث فيها حياة جديدة.

إن لله تعالى سننًا لا تتخلف، منها سنة الاستبدال: ولن يضيع دين الله، ولن تنطفئ أنواره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى