نفحات عشر ذي الحجة
الكلمة الأسبوعية
د. سالم أبو حنك
نفحات عشر ذي الحجة
نعيش هذه الأيام إحدى نفحات المولى على عباده، وأحد مواسم الطاعات، وتنزل البركات، موسم العفو والغفران، موسم تتجلى فيه عظمة المولى سبحانه على لسان خلقه بالتكبير والتحميد والتهليل، موسم التضحية والفداء في أبهى صوره وأجل معانيه، موسم يتنافس فيه المشمّرون، ويغفل عنه اللاهون، أيام أخبرنا عنها نبينا وحبيبنا، وباذل الخير والنصح لنا، سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، حين وصفها لنا في الحديث عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)، يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يَرْجِعْ من ذلك بشيء)، (رواه البخاري). فهي غنيمة ما بعدها غنيمة، وسانحة لا يقدرها إلا من عرف فضلها، وصدَّق بما أخبر به الحبيب المصطفى، ووفقه الله لاغتنامها.
إنها الأيام العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة، الشهر الحرام، شهر الحج، فيه يوم عرفة الذي بشرنا به رسولنا الكريم، كما في صحيح مسلم: (صيام يوم عرفة، أحتَسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده)، وهو يوم الحج الأكبر الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام محرمين مكبرين مبتهلين لله بالدعاء، وكما وصفهم ربنا في الحديث عن عبد الله بن عمرو- عن النبي، قال: (إنَّ اللهَ تعالَى يُبَاهِي ملائكتَه عشيةَ عرفةَ بأهلِ عرفةَ، يقولُ: انظروا إلى عباديِ، أَتَوْنِي شُعْثًا غَبْرًا)، وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن جابر قال: قال رسول الله: (إذا كان يوم عرفة فإن الله تبارك وتعالى يباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم)، قال رسول الله: «فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة).
ها هي الفرصة قد حلت بكم، والفضل والبركات قد نزلت بدياركم، فهلّا اغتنمناها وتزودنا منها، ونلنا منها ما يمكن من الخير والفضل والبركات، أم يا ترى ستضيع منا هذه الفرصة كما ضاعت الفرص قبلها، والعمر محدود والنهاية قادمة والموعد مكتوب ولكننا لا نعلم متى يكون، وقد يكون في أي لحظة، وقد يُنسِئ الله في الأجل حينا من الدهر فتكون لنا فرص أخرى، والعاقل من اغتنم ما بين يديه ولا يؤمل في ما ليس به علم أو ضمان؛ فالعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
ماذا يمكن أن نفعل في الأيام القليلة الباقية؟ هناك الكثير من الأعمال البسيطة وغير المكلفة، التي تعود علينا بالخير العميم والفضل الكبير، وقد أرشدنا رسولنا الذي يحب لنا الخير إلى ذلك، فقال: الأعمال الصالحة، ويندرج تحتها كل عمل فيه خير، ويراد به وجه الله تعالى من: ذكر، وقراءة قرآن، وصيام، ومساعدة محتاج، وحسن معاملة، ودلالة على الخير، وأمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ونصيحة، وتعلُّمٍ أو تعليم، وصلةِ رحم، وبر والدين، وخدمة الآخرين، وتبسمك في وجه أخيك، ونشر للفضيلة وستر للرذيلة، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة.
ولو نظرنا إلى بعض أحاديث نبينا محمد لوجدنا عددا من الأعمال التي لا تستهلك كثيرا من الجهد أو الوقت ولكنها عظيمة عند الله، فأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وهو كما ورد عن رسول الله (أفضل قولي وقول الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير)، وفضل يوم عرفة أن كل ساعاته ساعات إجابة، فلا يعدمن الإنسان أن يجد وقتا يتفرغ فيه للدعاء والذكر، يكسب الأجر وينال ما يرجو من الخير، وقد أخرج البيهقي في «الشعب» عن بكير بن عتيق قال: حججت فتوسمت رجلا أقتدي به فإذا سالم بن عبد الله في الموقف يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله إلها واحدا ونحن له مسلمون، لا إله إلا الله ولو كره المشركون، لا إله إلا الله ربنا ورب آبائنا الأولين، فلم يزل يقول هذا حتى غابت الشمس ثم نظر إليّ وقال: حدثني أبي عن أبيه عمر بن الخطاب عن النبي قال: (يقول الله تبارك وتعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين).
اللهم وفقنا لطاعتك، وأتم علينا نعمتك، واهدنا سبل السلام، وندعو بدعوة المصطفى حيث يقول: (اللهم اجعل في سمعي نورا، وفي بصري نورا، وفي قلبي نورا، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأعوذ بك من وسواس الصدر، وتشتت الأمر، وعذاب القبر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر)، اللهم احفظ البلاد والعباد من شر كل ذي شر، وأسبغ علينا نعمة الأمن والإيمان والسلامة والإسلام.