صالون عمر الناميعاممقالاتمقالات فكرية

نُقَى الإحـيـاء للعلامة محمد أحمد الراشد -رحمه الله-

أ. وليد المغربي

تهذيب وتقريب لإحياء علوم الدين للإمام الحجة أبي حامد #الغزاليّ -رحمه الله-

الرّاشد صاحب خبرة في التقريب والتهذيب، وقد هذّب كتبًا قبل هذا، مثل تهذيب الغِياثي للإمام الجوينيّ وسمّاه: “الفقه الّلاهِب” وتهذيب مدارج السّالكين للإمام ابن القيم، وتهذيب مُعيد النّعم ومُبيد النّقم، وأسماه: “سبائك السبكي” وتهذيب “شرح العقيدة الطحاوية للإمام ابن أبي العز الحنفي، وأسماه: “أصول العقيدة الإسلامية” التي قرّرها الإمام أبو جعفر الطّحاوي.

وهو خبير بالتراث، مُطّلع على كتب السنة، وذخائر السلف، ويُحسِن الاستلالَ منها، والاستشهاد بها، ويبدع في توظيفها، وتنزيلها على الواقع الدّعوي والتّربوي.

والرّاشد له نَفَسٌ نقديّ، وحُسْن عرْضٍ، وذوق وفن، حتى في اختيار العناوين، وأغلفة الكتب!.

جاء نُقَى الإحياء في أربعة أجزاء، وجعل كل جزء مختص بربع من أرباع الكتاب الأصلي: العبادات، والعادات، والمهلكات، والمنجيات، وهو في حجم نصف كلمات الإحياء الأصلي تقريبًا، ومَهره بشيء من التعليقات اللازمة في الحاشية في ثنايا التهذيب، وهي قليلة.

وكتب مُقدمةً مُطوّلة، فيها حديثٌ عن الإحياء والتّصوف والتربية، والواقع التربوي والدّعوي، وذكر إيجابيات الإحياء وسلبياته، وقد قسا أحيانًا على نوع من الصوفية، وأشاد ببعضهم في القديم والحديث، بل انتقد الإمامَ الغزاليَّ في مواضع و عدّة أمور تعرفُ منها وتُنكِر!، وغلبت عليه الإشادةُ به، وبعلمه، وعقليّته، وتوازنِه وكتابه الرّائد الإحياء!.

وقد بشّر المؤلف بهذا الكتاب منذ سنوات طويلة، و أتمّه قبل وفاته، ونُشِرَ بعدها قبل نحو ثلاثة أشهر، وهو مَن اخْتار الغلاف، بل حتى طريقة الأسطر في الصفحات والمسافات بينها!.

جاءت المقدمة في نحو خمسين صفحة، وهي تَقدمة جليلة القدرِ نفيسة، فيها تجربة ثَرّة، ونظرة نقدية عميقة للتربية وللتصوف، مع نظراتِ إنصاف.

وحقّ المقدمة أن تُفرَد في كتاب صغير، ربما يكون في حجم كتابه الرّقائق، وكما قال المؤلف في آخر المقدمة: وكأن هذه المقدمة صارت تليق أن تكون كتابًا مستقلًا!.
والمقدمة حَرِيّةٌ بالمُدارسَة بَلْه المُطالعة!.

يقول صاحبُ (النُّقَـى):

“أهم ذلك: اللمسات الدعوية اللطيفة التي ظهرت في منهجية الإحياء، وقد أراده لأهل عصره، ولكنّ صفاء نيته جعل الكتاب مدرسة تربوية لأجيال المسلمين من بعده على مدى ألف سنة حتى اليوم، وسيكون كتاب المستقبل أيضا بسبب البركة المستمرة!.”(صـ21-22)

وتبقى الايجابيةُ الأكبر من كلّ ذلك: أنّ الإحياء منهج تربويّ كامل يشرح المقامات والأحوال الإيمانية بكفاءه عالية، ولئن مازجتها سلبيات الأحاديث الضعيفة، وبعض الآراء المرجوحة فإنّ منهجيتنا التهذيبيّة أعادته إلى أن يكون كامل الوصف الإيجابيّ”(صـ28)

“كتب الغزالي الإحياء في آخر عمره، بعد تدوينه بعض كتبه الأخرى، أي بعد نضوجه كفقيه أصوليّ متعمق ومطلع على الفلسفة والتّاريخ، ولذلك استعمل ثروته الأصوليّة والمنطقيّة في نقاش القضايا الإيمانية….واستنتج وجوب الوسطية في مواطن كثيرة، ومن هنا فإنّ الداعية التي يتخرّج بمدرسة الإحياء لا يكون مؤمنًا فقط، بل مُثقفًا أيضًا ومتدّربًا على الاستدلال العقلي المنطقي، وعلى أنواع من سياقات التفكير الوسطي الموزون، البعيد عن التطرف، ثم المحاججة والحوار، واستدعاء البراهين والأدلة فكأنّ الأحياء صار بذلك مدرسة شاملة تتولّى شرح القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والتراث الاجتهادي؛ لبناء الإسلام، مثل ما هو وثيقة عظيمة تربوية؛ بحيث تنغرس في لاشعور القارئ المتمعّن أولويات المكنة القيادية، مع فهم لعموم الحياة وآفاق السّلوك الحضاري والبناء المدني” (صـ27)

” أما هو يعني -الغزالي- فقد كان عفيفًا واتّبع طريقة المفاصلة مع الظلم، بل وأوغل في التحذير خلال الأحياء من مخالطة الظالمين، والدخول على السلاطين والمترفين، وجعل ذلك علامة الزهد الصحيح، ونهى فعليًا عن المنكر السياسيي الذي هو أشد أنواع المنكر، وسيرتُه في حياته تشهد بالنقاء وازدراء الدنيويّات، وتثمين التّعفف عن شبهات علِقت في زمانه بالمال، أو العلاقات العامة مع رجال الدولة، فكان زاهدًا بحقّ وصادق الوعد، وقدوة للأجيال، وذلك هو السر الرُّوحاني التي يتذوقه كل مواظب على قراءة الإحياء فيعزم المتأثّر بأنفاس الغزالي الطّيبة على أن يحلّق مع النّبلاء الطيّبين في المراتب السامية!” ( صـ30)

“مارست هذا الانتقاء من خلال المنهجية الدعوية في تقويم الأفكار، وبأنماط اجتهادية مصلحية ومقاصدية تهتم باللمعات والإبداعات، وجَعْل حديث القلوب هو مركز الانطلاق ومدار الموعظه، فهذا الكتاب ليس هو مختصر الإحياء أبدًا، بل هو تهذيب له بمعايير تربوية تقترب من أسلوب أهل الحديث في الفقه…فصار متنًا إيمانيًا و وثيقة تربوية سليمة النّص والمعنى المقتبس منه، بحيث تتحقق انسيابية جمالية إيمانية لمن يُطالعه، دون صدمات وتكديرات، بل يقود نحو اندماج عميق مع المعالي دون وقفات اعتراضيه” ( صـ10)

“ولذلك فإن الإحياء عندي هو مرجع مهم في علم النفس الإسلامي، ولو درسه النفسيّون جيدا لوجدوا فيه إبداعًا كثيرًا”. (صـ15)

الكتاب مُهمّ في بابه، وقد دكّن فيه الراشد على أمور مهمة، وانتقى الخالص الصافي، وجعله سائغًا للقارئين الذين يريدون أن يرتقوا في مدارج الكمال، ويحوزوا التربية والتزكية الصحيحة.

وهو يصلح أن يكون منهجًا تربوبًا ودعويًا للدعاة والمربين في حلق العلم، والجلسات التربوية، والكليات الإسلامية.

وحسبك بالكتاب أنّه خلاصة تجربة الغزاليّ، وما استخلصه من الزّهاد والعارفين السابقين، ولذلك كان الإحياء كتابَ القرون في التزكية والتربية بلا منازع، ثم تُوّجَ بهذا الانتقاء والتهذيب التي صاغته عقلية فذّة مارست الكتابة الدّعوية والتربوية أزيد من نصف قرن، كما هذّبت قبل هذا التهذيب كتبًا منها: تهذيب مدارج السّالكين، قبل نحو أربعين عامًا!.

تأتي أهمية الكتاب خاصةً في وقتنا الحاضر؛ الذي اجتاحتنا فيه الماديّة، وأحاطت بنا من كلّ جانب، و ما نرى من “طغيان مظاهر الفساد” والبعد عن معاني التّدين الصحيح.

وأصبحنا في حاجة ماسّة لمنهج تربوي قويم تتربّى عليه الناشئة، والأُسَرُ المحافظة على تديّنها، ويستضيء به الدّعاة والمُربّون في حِلق الذِّكر والمساجد!.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليّها ومولاها برحمتك يا أرحم الراحمين!.

رحم الله الإمام الحجّة أبا حامد الغزاليّ، والعلامة محمد أحمد الراشد، ورضي عنهما، وجازهما عن الإسلام و الإيمان والإحسان خيرًا!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى