️التوجيهات التربوية المستنبطة من هذه الآية 26 من سورة آل عمران
️أ. محمد العوامي
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة آل عمران، 26)
“وكلمة المِلك نعرفها فيمَنْ يملك قطعة من الأرض بمَنْ فيها ويحكم وله رعية، ومن هذه المادة: المالك. ويُطلَق على أيِّ مالك لأيِّ شيء، ولو لم يكن لديه إلا الثوب الذي يلبسه فهو مالك، أما: المَلِك فهو مَنْ يملك الذين يملكون، فله ملك على المالكين، وهذا المَلِك لم يأخذ مُلْكه بذاته، إنما بإيتاء الله له…..
فلو كان مُلْك هؤلاء الملوك ذاتياً ما نُزِع منهم، أَلَا ترى الملِك من ملوك الدنيا يقوي ويستتب له الأمر، ويكون له صولجان وبَطْش وفَتْك. . إلخ، ومع كل هذا لا يستطيع الاحتفاظ بملكه؟ وفي لحظة ينهار هذا الملْك ولو على يد جندي من جنوده، بل وربما تلفظه بلاده، ولا تقبل حتى أنْ يُدفن بها، وتتطوع له بعض الدول، وتقبل أنْ تُواري رفاته بأرضها، فأيُّ ملك هذا؟
وهذه آية من الآيات نراها في كل عصر – وكأنها قائمة – دليلاً على صدق الآية: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ. .} [آل عمران: 26] إذن: إنْ ملكك الله فاعلم أنه مُلْك موهوب، مهما استتب لك فلا تضمن بقاءه؛ لأن الله تعالى ملَّكك لغاية، ولا يملك الغاية إلا هو سبحانه.
“التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى: (وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك، فيه إشارة إلى أنه يأخذه منه بعد أن استقر فيه وثبت له وظن أنه لَا مزيل لسلطانه، فيأتيه الله من حيث لَا يحتسب، ويأخذ ملكه أخذ عزيزٍ مقتدر ثم إن في النزع إشارة إلى أن من يؤتى سلطانا يطغى فيه ويبغي ولا يسير بسنة الحق والعدل لَا يتركه طائعًا، بل لابد أن يُمكِّن الله منه من ينزعه من يده، وقد يأخذه منه من كان يأتمنه ” ومِنْ مَأمَنِه يُؤتي الحَذِر “. وفي كثير من الأحيان يكون السبب في زواله هو من كان السبب في طغيانه”.¹
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ”، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود، 102) ²
وهذا يذكرنا بأن الله هو الذي يحكم ويقدر الأمور بحكمته وعدله.
☆التوجيهات التربوية المستنبطة من الآية:
✔️ التوحيد والإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة:
إن قدرة الله العظيمة هي التي تدفع العقل إلى الخضوع أمام خالق هذا الكون البديع.
إننا لا نملك الكلمات التي تحدد أبعاد هذه القدرة المطلقة، فقد وصف الله ذاته في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: 82).
فهو مالك الملك، يمنح الحكم لمن يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
هذه الحقيقة تضع الإنسان أمام قدرته المحدودة وتجعل قلبه متعلقًا بالله وحده. يقول الله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}، فكل خير هو من عند الله، ومنه تُرفع الحاجات وتُرجى الرحمات.
لقد شهد التاريخ على هذه الحقيقة؛ فالملوك والجبابرة الذين حكموا العالم مثل النمرود وفرعون وغيرهم، نزع الله ملكهم وجعلهم عبرة لمن يعتبر، إن قدرة الله على منح الملك وانتزاعه ليست مقتصرة على الزمان الماضي، بل هي قانون إلهي ثابت ينطبق على كل زمان ومكان.
إن أي سلطة أو حكم هو بيد الله وحده، وأنه لا يدوم إلا بما يشاء الله، وأن الاتعاظ بأمثلة الماضي هو السبيل للنجاة في الحاضر والمستقبل.
✔️ الثبات على الحق: العز الحقيقي ليس في الملك والسلطان، بل في الثبات على الحق والعمل بشرع الله، فالملك يمكن أن يزول ويُنزع كما تُنزع الروح، ولذا قال الفضيل بن عياض: “قلع جبلٍ بالإبر أهون من قلع الرئاسة”. ويجب على المؤمن أن يسعى لتحقيق العز بالثبات على دين الله والتمسك بما أمر به، وقال النبي ﷺ: “إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء” ³
فالتمسك بالحق والثبات عليه هو العز الحقيقي، وما سوى ذلك من ملك وسلطان يمكن أن يزول وينتزع، أما العز بالدين فهو ثابت وباقٍ.
✔ التفويض والتسليم لأمر الله: إن التعلق بالدنيا وزينتها قد يدفع الإنسان إلى التشبث بالملك والحكم، ولكن يجب أن يدرك المؤمن أن كل شيء بيد الله. يقول الله تعالى: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ}، فلا أحد يستطيع أن يغير من أقدار الله أو يعترض على حكمه، قال رسول الله ﷺ: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف” ⁴
إن التفويض والتوكل على الله هو سبيل المؤمنين الصادقين، فيعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فقلوبهم مطمئنة إلى قضاء الله وقدره، راضية بحكمه، مستقرة في عز وكرامة بطاعته وعبادته.
✔ المؤمن مطالب بالسعي الدؤوب لتطبيق شرع الله على الأرض وتحقيق العدل والمساواة بين الناس، بغض النظر عن من يملك السلطة أو من تُسلب منه، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُقدِّر الأمور كيفما يشاء ولا يُسأل عما يفعل. يقول الله تعالى في سورة آل عمران: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الآية 26)،
قالﷺ:”كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” ⁵ مما يؤكد على مسؤولية كل فرد في تحقيق العدل.
وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة” دلالة على أهمية العدل في بقاء الأمم.⁶
وذكر الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات” أن مقاصد الشريعة تهدف إلى حفظ الضرورات الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل، والمال، وأن تحقيق هذه المقاصد يستدعي إقامة العدل. ⁷
فالمؤمن إذاً يسعى جاهداً لتحقيق شرع الله ونشر العدل، متوكلاً على الله، ومؤمناً بأن الأقدار بيد الله وحده، حيث قال تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًۭٔا وَهُوَ خَيْرٌۭ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا۟ شَيْـًۭٔا وَهُوَ شَرٌّۭ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216).
✔️ الاستعانة بالله في الشدائد تعلمنا الآية الكريمة أن الخير كله بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه يجب علينا أن نرفع حاجاتنا وندعو إليه في كل أمر. وقد روى الترمذي عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع”. وفي رواية: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط”.
فالابتلاءات والمحن هي وسائل للتقرب إلى الله والاعتماد عليه، وقد ذكر العلماء في تفسير هذه الآيات والأحاديث أن البلاء ينقي القلوب ويزكي النفوس، وأن الصبر على البلاء يرفع درجات المؤمن ويكفر عنه السيئات.
✔️ الاقتناع بما قدره الله: الملك والحكم ليسا غاية في حد ذاتهما، بل هما وسيلة لتحقيق العدل وخدمة الناس، وكما قال رسول الله ﷺ: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به” ⁸ .
فالملك مسؤولية عظيمة تتطلب العدل والرفق بالناس.
وقال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: “فيه الحث على الرفق بالرعية والنهي عن التشديد عليهم، والدعاء على من ولي أمرهم فشق عليهم”.
وقال ابن حجر العسقلاني: “هذا الدعاء يحمل في طياته معنى عظيم، وهو أن الحكم ليس مجرد منصب للتباهي، بل هو عبء يستلزم من الحاكم أن يكون عادلاً ورحيماً”.
○ الآية الكريمة تعلمنا أن الملك والحكم بيد الله وحده، وأن علينا أن نؤمن بقدرته ونسعى للثبات على الحق وتطبيق شرعه. وفي كل محنة وابتلاء، يجب أن نتوجه إلى الله بالدعاء والاستعانة به، مع الرضا بما قسمه الله لنا. فهذا هو الطريق إلى العز الحقيقي والفلاح في الدنيا والآخرة.
○ قال ابن الجوزي: “فإياك إياك أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء؛ فإنك مبتلى بالبلاء، متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله؛ وإن طال البلاء”.
___________
¹. زهرة التفاسير لمحمد أبوزهرة. ². متفق عليه. ³. رواه مسلم. ⁴. رواه الترمذي.
⁵. متفق عليه. ⁶. كتاب “الفتاوى الكبرى” للإمام ابن تيمية، الجزء 28. ⁷. “الموافقات” للإمام الشاطبي، الجزء 2. ⁸. رواه مسلم.