صالون عمر الناميعاممقالاتمقالات فكرية

النحو القديم على جلالته لم يشمل كل أنحاء الكلام العربي

د. محمد خليل الزروق

في ظني أن النحو القديم على جلالته لم يشمل كل أنحاء الكلام العربي، فما زالت أساليب عربية قديمة غير داخلة تحت قوانينه، وحيث وجدت اختلافا واسعا في التوجيه لكلام فصيح فذلك مظنة هذا الأمر. وسأذكر لذلك مثالا هنا من القرآن الكريم في مسألة هي من قبيل التنازع، ولكنها لا ترد في باب التنازع فيما أعلم، وهي تنازع اللفظ بين الشرط والعطف.

وذلك نحو قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون -منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة- ثم صرفكم عنهم ليبتليكم).

فجواب الشرط (إذا) غير ظاهر في النظم، وهو في المعنى (صرفكم)، أي: حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم، ولذلك قال معربون فيه بزيادة (ثم) ليصح لهم أن يكون (صرفكم) جوابا. والذي يظهر لي أن قوله: (ثم صرفكم عنهم) معطوف على قوله: (ولقد صدقكم الله وعده)، أي: صدقكم وعده ثم صرفكم عنهم، و(صرفكم عنهم) في الوقت نفسه هو جواب الشرط (إذا فشلتم)، فتنازع الجواب والعطف، فأوثر العطف على الجواب، لأن الجوابية يمكن أن تفهم بلا أداة، والعطف مفتقر ضرورة إلى أداة ذات معنى مخصوص، وهي هنا (ثم)، فساق النظم على هذه الصورة، وتحير فيه المعربون، مخالفا طريقته في التنازع، وهي إعمال الأخير، فأعمل الأول من أجل الحاجة إلى أداة العطف.

ومثله تماما قوله تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا).

فجواب (إذا ضاقت) غير ظاهر في النظم، وهو في المعنى (تاب عليهم)، أي: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تاب عليهم، وهو في الوقت نفسه معطوف على قوله: (لقد تاب الله على النبيء)، أي: لقد تاب الله على النبيء والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة ثم تاب عليهم ليتوبوا.

ولا يثقلن عليك تركيب: لقد تاب الله على النبيء والمهاجرين والأنصار، ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم، ثم تاب عليهم ليتوبوا، فهذا التكرار مألوف في القرآن الكريم لتوكيد المعاني مع الدلالة على أنها مراتب، كما قال: (إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا).

وهاك مثالا ثالثا في أداة عطف أخرى على الأسلوب نفسه، وذلك قوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها)، فجواب (إذا جاءوها) غير ظاهر في النظم، وهو في المعنى: (فتحت أبوابها) كما في الآية الأخرى قبلها في قصة الذين كفروا، وهو في الوقت نفسه معطوف على (وسيق الذين اتقوا ربهم)، أي: وسيق الذين اتقوا إلى الجنة وفتحت أبوابها، والمراد أن تفتيح الأبواب كان مقارنا للسوق، وقع السوق ووقع التفتيح للأبواب معا، للدلالة على الشروع في تفتيح الأبواب من لدن انطلاقهم، إكرامًا لهم، واعتناء بشأنهم، كما يُفعل بأهل التكريم يُستعد لهم قبل الوصول، ويحتفى بهم قبل البلوغ، ولا يتم هذا حتى يكون تعبيره بـ (جاءوها) مرادا به الشروع أو الاقتراب، والتعبير بالفعل عن الشروع فيه أو اقترابه مستعمل في القرآن وفي الكلام، نحو: (والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم)، إذ كيف يوصون وهم متوفون؟ لا يكون ذلك إلا لأن المراد: قاربوا الوفاة، فعبر بالوفاة عن اقترابها، كذلك هنا عبر بالمجيء عن اقترابه، أي: فلما اقترب مجيئهم فتحت أبوابها. والله أعلم بمراده.

وهذه المسألة ذكرتها في كتابي (المعلى) ولم أشرحها هذا الشرح، ولكن أشرت إليها إشارة سريعة بأمثلتها الثلاثة في الكلام على (ثم) العاطفة، ويمكن أن تلتمس لها شواهد في كلام العرب لا يتسع لها المقام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى