مقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

كيف نستعيد شخصيتنا الإسلامية

د. جمال نصار

في خضم الحياة المليئة بالمغريات والتحديات والصراعات، من الأهمية بمكان ألّا تذوب شخصيتنا أو تندثر، نتيجة لتلك المغريات الوافدة إلينا من الغرب، أو بسبب الصراعات السياسية والحروب الأهلية هنا وهناك. ومن ثمَّ علينا أن نتمايز بشخصيتنا الإسلامية دون إفراط أو تفريط.

والشخصية الإسلامية هي تلك الشخصية السوية القائمة في مبادئها وأصولها وآدابها على الإذعان والانقياد لأوامر الله ورسوله، وهي التي تتعلم آدابها، وتستقي مبادئها من الكتاب والسنة، وتتعرف إلى تطبيقات ذلك بالاقتداء بسلف الأمة، والتأسي بالصالحين من أبنائها، ممن لهم قدم صدق فيها.

وقد حرص الإسلام على إبراز شخصية المسلم الحق، وأكّد الأخذ بمقوماتها الإسلامية الأصيلة، وأكثر من ذِكْر معالم هذه الشخصية وملامحها وركائزها وآثارها في كيان الأفراد والأمم، لتُعرف الصورة الصادقة عن الإسلام الحق، وأثره في حياة الناس.

فالشخصية الإسلامية قائمة على الإيمان بالله ورسله والتصديق بوعده ووعيده، متحلية بآداب الشريعة الكاملة من الصدق، والأمانة، والعفة، والحياء، والخلق الحسن، وحسن الجوار، والمسارعة في الخيرات، والإعانة على فعل المعروف، وكف الأذى، إلى غير ذلك من أخلاق الإسلام.

وقد تعرضت الشخصية الإسلامية عبر القرون إلى حملات آثمة استهدفت تشويهها ومسخها، أو الاستخفاف بها، فجاء أعداء الإسلام بما جاؤوا به من فلسفات وثقافات ليزاحموا بها الإسلام في نفوس المسلمين؛ وبذلك لا يستقل الإسلام ببناء الإنسان، ولا يتعرف الناس إلى سمو الشريعة وكمالها وصفاء عقيدتها، فيحصل من المسخ والتغيير والتبديل ما يريد أعداء الله به ما الله حائل بينهم وبينه من إطفاء نوره، وتبديل كلماته.

لماذا يغيب الوعي عن المنهج السنني؟

هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى غياب وابتعاد المسلم عن المنهج السنني الذي رسمه لنا الإسلام قرآنًا وسنة، من ذلك: ضعف البصيرة بحقيقة الدين، والجمود الفكري الذي أصاب المسلمين، وأدّى هذا الجمود إلى الانبهار بالآخرين، لأننا لا نملك شيئًا، وإن اختلفت حضارتنا ومعالمها عن حضارتهم ومعالمها، وهؤلاء المنبهرون بدورهم دعوا إلى التقليد، وفي كثير من الأحيان دعوا إلى التقليد الأعمى، حتى قال أحدهم: “العفة والبكارة وأمثال هذه المفاهيم إنما هي من علامات التأخّر حينما يتمسك بها مجتمع من المجتمعات”. وهذا الذي تنبأ به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن) أي: فمن غيرهم.

 

نحن في حاجة مُلحّة إلى نظام تعليمي إسلامي في الروح والوضع، والسبك والترتيب، ويجب ألّا يخلو كتاب من الكتب التي تعلم مبادئ اللغة إلى آخر يدرس في العلوم الطبيعية، أو الآداب الإنجليزية من روح الدين والإيمان، هذا إذا أردنا أن ينشأ جيل جديد يفكر بالعقل الإسلامي، ويكتب بقلم مسلم، وتكون البلاد الإسلامية إسلامية حقًا في عقلها وتفكيرها، وسياستها، وماليتها، وتعليمها.

وتلك الحضارة التي أخذت عقولنا حضارة مادية قادتنا إلى الانغماس في المادة، والحياة المادية بما فيها من شهوات وملذات تغرس في قلوب أبنائها حب الدنيا، وحب الدنيا يجعل الكل حريصًا على ما في يده، بخيلاً به على غيره، فيكون التفرق والتشرذم، ويُصبح بأس الأمة بينها شديد، وهذا ما حذّر منه النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها). فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوَهْن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).

وفقدان الأمة وحدتها أفقدها هدفها، فهي لا تملك رؤية واضحة، رغم أننا نجد وضوح هذه الرؤية عند النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)، لكن الأمة فقدت هذه الرؤية، فباتت قطعانًا كقطعان الغنم يرعاها ذئاب لئام لا همَّ لأحدهم إلا شِبَع بطنه وملء جَيْبه، والسيطرة على مقاليد الأمور.

أين السبيل؟

أقول: لكي نعيد شخصيتنا الإسلامية الواعية والكامنة في نفس كل مِنّا، لا بد من إصلاحات جزئية لمناطق الخلل في المجتمع، بل بإدراك المفهوم الإسلامي الصحيح لأهمية الدين في حياة المجتمع، ونحن عندما نعيد هذا المفهوم، لا نأتي بشيء جديد غائب عن وجودنا كل الغيبة، بل هو مجرد إزالة التراب الذي غطى على عقول بعض المسلمين اليوم، فحصر الدين في إطار ضيق، لا يخرج عن إطار النسك والعبادات الفردية، ونحن نعيد بإعادة هذا المفهوم عودتنا إلى حقيقتنا الإسلامية؛ بالتجسيد الحي لهذا المفهوم، كما يتجلى في سلوكنا وعلاقاتنا الاجتماعية، التي هي وليدة الدين كحضارة، وكنظام اجتماعي، وكأسلوب شامل للحياة.

إن انتشار التعليم في بلادنا على أساس تجريده من ثقافتنا الذاتية (الإسلامية)، وانتمائنا المحدد شيء يضر ولا يسر، ويقلق ولا يطمئن، وقد رأينا نتيجته أن الرجل عندنا قد ينال أعلى الإجازات العلمية في الطب والقانون، وقد يُعيّن في أعلى المناصب بأوروبا وأمريكا، لكن صلته بالدين صفر، وعلاقته بجنسه هواء، على حين يكون زميله اليهودي كالإعصار في خدمة الصهيونية، وزميله النصراني أسرع من البرق في خدمة الاستعمار، فهل هذا المسلم البارد الشعور، أو المرتد القلب يجدي لأمته شيئًا؟ إنه كالجندي المرتزق، يخدم أي مبدأ على ملء بطنه وإيثار عاجلته.

نحن في حاجة مُلحّة إلى نظام تعليمي إسلامي في الروح والوضع، والسبك والترتيب، ويجب ألّا يخلو كتاب من الكتب التي تعلم مبادئ اللغة إلى آخر يدرس في العلوم الطبيعية، أو الآداب الإنجليزية من روح الدين والإيمان، هذا إذا أردنا أن ينشأ جيل جديد يفكر بالعقل الإسلامي، ويكتب بقلم مسلم، وتكون البلاد الإسلامية إسلامية حقًا في عقلها وتفكيرها، وسياستها، وماليتها، وتعليمها.

إن وضع هذا المنهاج التعليمي من حاجات البلاد الإسلامية الأولى التي لا يسعها التغافل عنها، والتساهل فيها، وهو عمل شاق وواسع يأخذ وقتًا طويلاً، وليس عمل فرد من الأفراد أو حفنة من الناس، وإنما هو عمل تقوم به جماعات ولجان، ومجامع علمية بمساعدة الحكومات الإسلامية وتشجيعها، ويسند كل جزء من هذا الإنتاج العلمي إلى جماعة تتوفر فيها مؤهلاته.

والناظر في واقعنا يجد أننا نفتقر إلى رؤية تعليمية، ورؤية سياسية، ورؤية اجتماعية، ورؤية عسكرية، ورؤية تجارية، ورؤية اقتصادية، ورؤية رياضية، ورؤية إعلامية؛ وهذا يدفعنا إلى إعادة هيكلة المجتمع العربي هيكلة كاملة في إطار قيمنا الإسلامية على ضوء تكنولوجيا العصر.

وختامًا أقول: إن السعي للتمسك بديننا ومبادئنا وأخلاقنا لا يعني الانفكاك تمامًا عمّن حولنا، فليس هذا هو المراد، بل علينا أن نستفيد من كل الحضارات والثقافات بما لا يؤثر بالسلب في ثقافتنا وهويتنا، وقد حثّنا على ذلك النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، بقوله: (الحكمةُ ضالَّةُ المؤمنِ، فحيثُ وجدَها فهو أحقُّ بها).

فالإسلام يعلمنا أن نأخذ الحق من أي وعاء خرج، ونقبل الصواب أيًا كان قائله، فالمسلم طالب هدى، باحث عن الصواب، رجّاع إلى الحق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى