عامقضايامقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

بدعة التكفير.. أصولها وأسبابها

د. أحمد الريسوني

قضية التكفير أصبحت حاضرة على الألسنة وفي وسائل الإعلام، فباستمرار نسمع ونقرأ: الجماعات التكفيرية.. التكفيريون.. تكفير المسلمين.. فلان كفروه.. فلان يُكَفِّر..، وهؤلاء يُكَفِّرون الناس…
فما هو التكفير؟ وما حكمه؟ وعلى من يقع؟ وما هي أسبابه ومنابعه؟
التكفير هو الحكم على شخص بأنه كافر، أو وصفه بالكفر، أو مناداته به. وكما يكون ذلك موجها ضد شخص، فقد يكون موجها ضد مجموعة أشخاص، أو ضد طائفة بمجملها.
وظاهرة «التكفير» توجد عند جميع أتباع الديانات فيما بينهم ومع غيرهم، بل في جميع المذاهب العقدية والفكرية تكفير وتكفير مضاد. فالمسيحيون يوجد بين طوائفهم وأقطابهم تكفير، وهم يكفرون غيرهم، ويكفرهم غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى. وكذلك شأن الأحبار والمجموعات اليهودية، وبين الشيوعيين أيضا تكفير وإخراج من «الملة».
وهذا ليس من موضوعي، وإنما أتحدث الآن أساسا عن التكفير في الدائرة الإسلامية وفي الثقافة الإسلامية وبين المسلمين…

التكفير مأخوذ من الكفر، والكفر هنا ضِدُّ الإيمانِ والإسلام، فوصْفُ شخص ما بالكفر معناه نفيُ الإيمان والإسلام عنه، أي اعتبارُه غيرَ مؤمن وغير مسلم، بناء على فهمه واستنتاجه الذي رآه واعتقده.
فما هو موقف الإسلام من التكفير بهذا المعنى؟
الإسلام أمَرَ بالحكم على الناس بظواهرهم وبتركِ سرائرهم إلى الله تعالى، ولم يكلفنا بالبحث عن قلوب الناس ومعتقداتهم والحكم عليها. فمن أعلن إيمانه وأظهر إسلامه، أو عُرف مندمجا في المسلمين وما هم عليه، أو وُلد ونشأ على ذلك، فهو مؤمن مسلم، ويجب اعتباره كذلك ومعاملته على ذلك، إلا إذا أعلن بنفسه خلافَ ذلك، أو ثبت عنه ثبوتا قطعيا، لا يحتمل شكا ولا تأويلا. وحتى في حالة الحرب أو نحوها من الظروف الحرجة، لا يجوز التشكيك فيمن بادر بإظهار إسلامه بأي شكل. قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [سورة النساء: 94] وردت عدة أحاديث نبوية تتضمن التحذير الشديد من تكفير أي مسلم، أذكر منها قولَه صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مسلم -: «أيُّما امرِئٍ قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدُهما، إنْ كان كما قال، وإلا رجعتْ عليه». وفي صحيح البخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بملةٍ غيرِ الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولَعْنُ المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله».

أجمع العلماء المعتبَرون – وخاصة أهلَ السنة – على عدم جواز التكفير بالمعاصي، صغيرةً كانت أو كبيرة، قليلة أو كثيرة. كما لا يكفَّر عندهم أحد في مجال الرأي والاجتهاد والتأويل، حتى ولو أخطأ في رأيه وتأويله.
وبقي أن الذي يُكَفِّر صاحبَه إنما هو ما يصدر عنه هو، ويعبر، صراحة وقطعا وقصدا، عن إنكاره أو احتقاره لشيء قطعي، مما جاء به رسول الله صلى الله عليه، كمن يعلن بنفسه إلحاده وعدم إيمانه بالله، أو عدم إيمانه بالقرآن المنزل، أو بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو رفضه الشريعة الإسلامية، أو نحو ذلك من التعبيرات الصريحة، فمثل هذا لا يحتاج في الحقيقة إلى تكفير، بل هو أعلن كفره بنفسه.
فهذه خلاصة ما عليه الإسلام وعلماؤه في قضية التكفير.
الخوارج أول المكفرين
ظهرت في تاريخ الإسلام طائفة مذهبية سياسية سميت باسم «الخوارج»، وهم الذين خرجوا على الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في سياق تاريخي معروف. فهم الذين أحدثوا في الإسلام بدعة التكفير، وصاروا يكفرون المسلمين بالجملة، واشتهروا بأنهم يكفِّرون مرتكب الكبيرة، أي من وقع في معصية كبيرة وبقي عليها. واقتربت منهم طائفة المعتزلة فقالوا: إن مرتكب الكبيرة في منزلةٍ بين المنزلتين، أي في منزلة بين الإيمان الحق والكفر التام…
وقد ظل العلماء عبر العصور يتبرؤون من الخوارج ومن بدعتهم التكفيرية، ويشَنِّعون على كل من نحا نحوهم أو اقترب من عقليتهم. ومع ذلك فالخوراج مسلمون لا يكفرهم أحد. ورغم أنهم كفَّروا عليا رضي الله، فإنه لما سئل: أكفارٌ هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً.
أسباب النزعة التكفيرية
من أهم الأسباب المنتجة للتكفير: السطحية في التفكير، والشدة في الطبع، والاندفاع في المواقف. وقد كان الخوارج أكثر الناس اتصافا بهذه الصفات، كما يظهر في هذا الحديث النبوي المتفق عليه، الذي أجمع العلماء على أنه يقصد الخوارج ويعين واحدا منهم. فعن أبي سعيد الخدري قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو يَقْسم قَسْما (أي يوزع أموالا) – أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال يا رسول الله اعدِلْ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك ومن يعدلُ إن لم أعدل؟ قد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل». فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «يا رسول الله ائذن لي فيه أضربْ عنقه». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمِيَّة).
فهذا نموذج من الخوارج وواحد من أوائلهم.
والحديث قد تضمن أهم صفاتهم أو بالأحرى أهم عيوبهم، وهي: التسرعٌ في الحكم، والغلظة في الخطاب، والتشدد في العبادات، والقراءة السطحية للقرآن، بحيث لا تتجاوز ألسنتهم وحناجرهم، ولا تَنفُذ إلى عقولهم وقلوبهم. والنتيجة أنهم ينسلخون من الإسلام، شعروا بذلك أو لم يشعروا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى