عامقضايامقالاتمقالات تربوية

أخوة العقيدة .. المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار نموذجاً.

سلسلة ” التمكين والشهود الحضاري ” (1)

د. علي محمد الصلابي

كان مِنْ أولى الدَّعائم الَّتي اعتمدها الرَّسول صلى الله عليه وسلم في برنامجه الإصلاحيِّ والتَّنظيميِّ للأمَّة وللدَّولة والحكم بعد هجرته إلى المدينة المنورة، هو تقرير المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي خطوةٌ لا تقلُّ أهمِّيَّةً عن الخطوة الأولى في بناء المسجد؛ لكي يتلاحم المجتمع المسلم، ويتآلف، وتتَّضح معالم تكوينه الجديد (مجدلاوي، 1989، ص 52-53).

وقد كان مبدأ التَّـآخي العام بين المسلمين قائماً منذ بداية الدَّعوة في عهدها المكِّيِّ، ونهى الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن كلِّ ما يؤدِّي إلى التَّباغض بين المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم : «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تَدَابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيَّامٍ» [البخاري (6065 و6076) ومسلم (2559)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلِمُهُ، ولا يُسْلِمُهُ، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربة، فرَّج الله – عزَّ وجلَّ – عنه كربةً من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة» [البخاري (2442) ومسلم (2580)] .

وقد أكَّد القرآن الكريم الأُخوَّة العامَّة بين أبناء الأمَّة، في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]، وقولـه تعالـى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات:10] .

ولذلك كانت أولى خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في بعد وصوله إلى المدينة هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فآخى بينهم على الحق والمواساة، وذلك في السنة الأولى من الهجرة. وكان ممن تآخوا في الله من المهاجرين والأنصار: أبو بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه، وخارجة بن زهيرٍ. وعمر بن الخطَّاب، وعتبان بن مالكٍ. وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وسعد بن معاذ. وعبد الرَّحمن بن عوفٍ، وسعد بن الرَّبيع. والزُّبير بن العوام، وسلامة بن سلامة بن وَقْشٍ. وطلحة ابن عُبيد الله، وكعب بن مالكٍ. وسعيد بن زيدٍ، وأُبيُّ بن كعبٍ. ومصعب بن عميرٍ، وأبو أيوبٍ خالد بن زيد. وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبَّاد بن بشر بن وَقْش. وعمَّار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان. وأبو ذرٍّ الغفاريُّ، والمنذر بن عمرو. وحاطب بن أبي بلتعة، وعُوَيم بن ساعدة. وسلمان الفارسي، وأبو الدَّرداء. وبلال مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو رُوَيْحة عبد الله بن عبد الرَّحمن الخَثْعميُّ (ابن كثير، د.ت، ص 2/324).

أسهم نظام المؤاخاة في ربط الأمَّة الوليدة بعضها ببعض، فقد أقام الرَّسول صلى الله عليه وسلم هذه الصِّلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الَّذي تذوب فيه عصبيَّات الجاهليَّة، فلا حَميَّة إلا للإسلام، وتسقط به فوارق النَّسب واللَّون والوطن، فلا يتأخَّر أحدٌ أو يتقدَّم إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هذه الأخوَّة عقداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدِّماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم لها أثرٌ. وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأُخوَّة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال (الغزالي، 1989، ص 193-194).

هذه الأخوة العظيمة المتينة قامت على آصرة العقيدة، وهي أساس الارتباط، فإنَّ المجتمع المدنيَّ الَّذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقديّاً يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه؛ إذ يتَّصل بوحدة العقيدة والفكر والرُّوح. وقد حصر الإسلامُ الأُخوَّة والموالاة بين المؤمنين فقط. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10] وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنَّصارى، حتَّى لو كانوا أباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم، ووصف مَنْ يفعل ذلك من المؤمنين بالظُّلم، ممَّا يدلُّ على أنَّ موالاة المؤمنين للكافرين من أعظم الذُّنوب. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [التوبة: 23] .

إنَّ التَّـآخي الَّذي تمَّ بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بعقيدةٍ تمَّ اللِّقاء عليها والإيمان بها؛ فالتآخي بين شخصين يُؤْمِن كلٌّ منهما بفكرةٍ أو عقيدةٍ مخالفةٍ للأخرى خرافةٌ ووَهْمٌ، خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة، ممَّا تَحْمِلُ صاحبها على سلوكٍ معيَّنٍ في الحياة العمليَّة، ولذلك كانت العقيدة الإسلاميَّة الَّتي جاء بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى هي العمود الفقريَّ للمؤاخاة التي حدثت؛ لأنَّ تلك العقيدة تضع الناس كلَّهم في مصافِّ العبودية الخالصة لله، دون الاعتبار لأيِّ فارقٍ إلا فارق التَّقوى والعمل الصَّالح؛ إذ ليس من المتوقَّع أن يسود الإخاء والتَّعاون والإيثار بين أناسٍ شَتَّتَتْهُمُ العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كلٌّ منهم ملكاً لأنانيته، وأثرته، وأهوائه (البوطي، 1991، ص 156). فكانت تلك المؤاخاة أولى المشاهد الحضارية في السيرة النبوية الشريفة، والتي تجلّت فيها روعة القيم الإنسانية والأبعاد الحضارية للإسلام.

المراجع:

1. مجدلاوي، فاروق، (1998)، الإدارة الإسلاميَّة في عصر عمر بن الخطَّاب، دار مجدلاوي – عمَّان، الطَّبعة الثَّانية 1418 هـ  1998 م
2. ابن كثير، إسماعيل،  (د.ت)، السِّيرة النَّبويَّة، تحقيق مصطفى عبد الواحد، الطَّبعة الثانية، 1398هـ، دار الفكر بيروت – لبنان.
3. البوطي، محمد سعيد رمضان، (1991)، فقه السيرة، الطَّبعة الحادية عشرة، 1991 م، دار الفكر، دمشق – سورية.
4. الغزالي، محمد، (1989)، فقه السِّيرة، الطَّبعة الرابعة، 1409 هـ  1989 م، دار القلم، دمشق – سورية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى