مقالاتمقالات تربوية

عمل الفرد…وآثاره في المجتمع.

 

أ. فرحات الهوني

من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول هي سنته في تعميم العذاب على المجتمعات التي تسكت وتغض الطرف عن أعمال المجرمين والمفسدين والظلمة ولا يكون لهم موقف استنكاري لذلك الإجرام والظلم.

ولو نظرنا إلى قصص هذه المجتمعات في القرآن الكريم وجدناها كثيرة يضرب الله بها الأمثال للمجتمعات لعلهم يتذكرون، وهنا نذكر نموذجاً من نماذج كثيرة قصها علينا القرآن الكريم.
إن الذين تآمروا على قتل ناقة سيدنا صالح كانوا تسعة أشخاص، قال تعالي: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [سورة النمل 48].
كان التآمر… (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) …. والذي نفذ المخطط شخص واحد… (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا)
فكانت النتيجة هذا السكوت…(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) .. [سورة النمل].
بما ظلموا…. بالسكوت عن الظلم.
والاستثناء الرباني دائما يكون للذين ينهون ولا يسكتون ..قال تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)..[سورة اﻷعراف 165] يقول الأستاذ المربي الفاضل محمد أحمد الراشد في كتاب المنطلق، فصل الأبرار الهالكون: “وصف بعض الأفاضل هذا العقاب بأنه ((قانون العقاب الجماعي في سنة الله الكونية))، وهو قانون رهيب مخيف يدفع كل ذي علم وفقه، وذي حكم وسلطان، إلى المسارعة والمبادرة، فوراً لتغيير المنكر، دفعاً للعذاب عن الكل”.
وذكر أيضا “أن من ترك الإنكار مطلقًا فإنه ظالم يعذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه))، وهذا الحديث موافق للآية.
والسكوت عن الظلم والفساد سمة من سمات بني إسرائيل (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [سورة المائدة 79].
يقول الشيخ الدكتور سلمان العودة في مقاله العقوبات والآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: “ولقد طغى الجهل وقلَّة الدين على قلوب بعض السطحيِّين، فاغترُّوا بإمهال الله عز وجل، فظنوا أنَّ تحذير الغيورين من مغبَّة التمادي في المنكر ومن عُقبى السكوت عن إنكاره؛ ظنُّوا ذلك ضربًا من ضروب الإرهاب الفكري والتَّخويف المبالَغ فيه، وليس له حقيقة.
لكنَّ الذين يستنيرون بنور الوحي، ويتأمَّلون نصوص الكتاب والسُّنَّة: يُدْرِكون تمام الإدراك العقوبات العظيمة التي سنَّها الله في حقِّ كلِّ أمَّة تخلَّت عن التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، سواء كانت تلك النصوص حكاية لمصائر الأمم التي فرَّطت في تلك الشعيرة، أو وعيدًا لمَن سلَكَ سبيلَها، وليس من الضَّروري أن تظهر هذه العقوبات بين يوم وليلة؛ فإنَّ الذي يحدِّد زمانَـها ومكانَها وصفتَها هو الله عزَّ وجلَّ، وليس استعجالَ البشر أو استبطاءهم.”

ويقول الأستاذ بلال عبد الرحمن أبداح في مقاله آثار الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع:
“إنّ المعاصي التي يقترفها المرء في حياته لا تقف آثارها المدمِّرة على ذات الفرد، بل تتعدّاه إلى المجتمع كلّه؛ وذلك لأنّ قوام الحياة وصلاحها يكون بالاستقامة على أوامر الله سبحانه، والالتزام بشريعته التي ارتضاها لخلقه، ومن هنا فإنّ كلّ انحرافٍ عن جادّة الصواب، وكلّ اتباعٍ لنزغات النفس ووساوس الشيطان إنّما هو تيهٌ في الشقاء، وإغراقٌ في الجهالات، وصدودٌ عن المقصد الرّباني من عمارة الأرض بالحقّ والصدق، ولذا فلا بدّ للمرء أن يتعرّف على الآثار الخطيرة للذنوب والمعاصي على مستوى الفرد والجماعة، معرفةً يقصد التحذير من مغبّة الاسترسال فيها، وإطلاق العنان لهوى النفس في الخوض في حدود الله سبحانه”.
وقد يتساءل البعض ما هي العقوبات (غير الظواهر الطبيعية مثل القصف والزلزال والفيضانات والرياح) التي يمكن أن تصيب المجتمعات من جراء هذا السكوت والتمادي في الظلم والفساد دون رادع منهم؟!…نعم يجيب الشيخ الدكتور سلمان العودة أن هناك من العقوبات الإلهية الكثيرة التي تصيب المجتمعات إذا سكتوا عن هذا الظلم والفساد تتمثل في أشكال متنوعة والواقع شاهد عليها منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- كثرة الخَبَث: إنَّ المنكَر إذا أُعلن في مجتمع، ولم يجد مَن يقف في وجهه؛ فإن سوقـه تقوم، وعوده يشتد، وسلطته تَظْهَر، ورواقَه يمتد، ويصبح دليلاً على تمكُّن أهل المنكر وقوَّتـهم، وذريعةً لاقتداء الناس بهم، وتقليدهم إيَّاهم، وما أحرصَ أهلَ المنكر على ذلك! فإذا قلَّد بعض الناس أهل المنكر والزَّيع في منكرهم؛ أخذ الباطل في الظهور، وهان خطبُه شيئًا فشيئًا في النفوس، وسكت الناس عنه، وشُغِلوا بما هو أعظم منه، وما تزال المنكراتُ تفشو، حتى يَكْثُرَ الخبَثُ، ويصير أمرًا عاديًّا مستساغًا؛ تألَفُه النفوس، وتتربَّى عليه.
2- الاختلاف والتناحر: إنَّ من أنكى العقوبات التي تنـزل بالمجتمع المهمِل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يتحوَّل المجتمع إلى فرق وشيعٍ تتنازعُها الأهواء، فيقع الاختلاف والتناحُر وذلك التناحر يجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي المتربِّص.

3- تسليط الأعداء: فإن الله جلَّ وعلا قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلِّط عليهم عدوًّا خارجيًّا، فيؤذيهم، ويستبيح بيضَتهم، وقد يأخذ بعض ما في أيديهم، وقد يتحكَّم في رقابهم وأموالهم.

4- الأزَمات الاقتصاديَّة: قد تحلُّ الأزمات الاقتصاديَّة بالمجتمع المفرِّط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتتلاطَمُ به أمواج الفقر والضَّوائق، ويذوق الويلات من الحرمان.

ولقد وصلت الأزمات ببعض المجتمعات الإسلامية إلى حال من الفقر يُرثى لها، حتى أصبح الفردُ يكدَحُ في سبيل الحصول على لقمة العيش؛ فلا يجدها، مما قد يُحْوِجُه إلى ما في أيدي النصارى المتربِّصين الذين يسخِّرون طاقاتِهم لتنصير المسلمين، فيؤدِّي ذلك إلى وقوع المسلم في التَّنصير والعياذ بالله؛ خاصةً أن انشغاله بلقمة العيش قد ينسيه كثيرًا من أمور دينه، مما يبعده عنه، ويهوِّنه عليه.

5- هناك عقوبة جدّ خطيرة، وهي أن الأمة بدأ مسارها في عدد من البلاد الإِسلامية يتغيَّر: ذلك أن المنافقين المفسِدين لم يكتفوا بإشاعة المنكَرات؛ بل مضوْا يخطِّطون لسلخ الأمة عن دينها جملة، حتى تتحوَّل إلى أمة عِلمانيَّة لا دين لها، تقبلُ أن تُحكَم بأيِّ شريعة، وأن يشيع فيها أيُّ انحراف فكريٍّ أو خلقيٍّ.

وهذا التحوُّل أخطر من سيطرة الكافرين والمنافقين عسكريًّا على البلاد الإسلامية.

والواقع يشهدُ لذلك؛ فإنك لو تأمَّلت تلك العقوبات في واقعنا المعاصر وخاصة في الدول الإسلامية، فإن سنن الله تعالى في خلقه ثابتة؛ لا تتغيَّر، ولا تُحابي أحدًا، ولا تتخلَّف عند وجود أسبابها، وإنَّ من سُنن الله الماضية أن يُسَلِّط عقوباته على المجتمعات التي تفرِّط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم تأخذ على يد الظلم والمفسد.

إن الأصل في العقاب أن يكون خاصاً، لكن لما كان الناس يعيشون في مجتمع واحد، ويتقاسمون معاً أفراح الحياة وأتراحها، كان عليهم أن يتحملوا المسؤولية الجماعية في بناء هذا المجتمع، ووضعه على مساره الصحيح، فإذا حاول البعض أن يخرق هذا المسار، أو أن يغير من اتجاهه، فإنه يتعين على الآخرين الأخذ على يده، وإعادته إلى جادة الصواب والرشاد، فإذا لم يفعلوا ذلك كان عليهم أن يتحملوا نتيجة ذلك التقصير. إذن العقاب من حيث الأصل شخصي وفردي وهو جار كذلك، إذا لم يكن للذنب المرتكب تأثير في المجتمع، أما إذا كان الذنب يتعدى حدود الشخص وحدود الفرد، فإن على المجتمع في مثل هذه الحالة أن يتحرك ليحفظ جانبه، ويحمي أمنه، فإن لم يفعل ذلك كان مقصراً، وبالتالي عليه أن يتحمل عاقبة هذا التقصير.

يقول الأستاذ عمرو الشاعر في مقاله العقاب الإلهي: “إلا أننا لم نحاول أن نقرأ واقعنا أو أن نفهم تاريخنا تبعاً لهذا المنظور, أن “الأمة المحمدية” ليست استثناء, وأننا نعذب –وعُذبنا- في تاريخنا بذنوبنا, وبقدر الانحراف والفساد تكون العقوبة. وتكمن أهمية غرس هذه النقطة في وجدان المسلمين هي أن محاولتنا تغيير ما بنا من أذى وضر لن تقتصر على الدعاء أن يرفع الله عنا ما بنا من البلاء, وإنما الدعاء والنظر أين هي أخطاؤنا لنعالجها وأين هي مواطن الفساد لنقضي عليها, وأن ننظر كذلك في أفهامنا للدين وفي تطبيقنا له, هل انحرفنا وحدنا كما فعل السابقون؟

يقول الأستاذ الراشد ايضاً: “لابد من تحليل الأحداث، وتفسير التاريخ، وتسمية المقدمات الخفية المؤدية إلى النتائج المنظورة، وننظر إلى العلاقات بين النتائج وبين بعض الأحداث والأحوال، ومن أهمها نظراً ظاهرة الاضطراب الاجتماعي والتراجع والخراب المدني، واستمرار التقهقر التدريجي، حتى ربما يختم بدمار كامل فجائي بقوة غير عادية حذرنا الله منها”.

في الختام أود أن أقول إن عادة الأمم هي الاكتفاء بالافتخار بحمل الكتاب الرباني والظن بأن هذا “صك نجاة” لها, بدلاً من أن تعمل به وتطبقه, وسنة الله تذكرنا دوماً بأن “الكتاب والرسالة” ليسا مزية بقدر ما هي مسؤولية مضاعفة, فالأمم الأخرى تُعاقب عندما يستشري الفساد في جسدها, فيستحق العضو الفاسد البتر

أنكروا ولو بأضعف الإيمان وهو القلب … (مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى