اجتماعيةمقالات

النخبة الوطنية الليبية ودورها في الإصلاح

سراج دغمان

باحث وكاتب ليبي

إن الحالة الليبية ليست متفردة بتعقيداتها عن باقي ملفات المنطقة، التي أتعبها صراع النفوذ بين مناطق الضغط المرتفع ثقافيًا وسياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، حيثُ انعكس هذا الصراع على منطقتنا بشكل مباشر؛ لأهمية الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث الموقع الإستراتيجي الذي يتوسط العالم, ومن حيث الموارد النفطية والغازية والمعادن، وكذلك الأهمية الإستراتيجية للمضائق والممرات المائية التي تطوف بشرق الأوسط وحتى شمال إفريقيا مُشكلة الممرات المهمة والرئيسية لسلاسل التوريد التجاري والطاقة.
حيثُ تتنافس هذه القوى وبشدة منذُ عقودٍ طويلة وبطرق ناعمة وأخرى خشنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وثم الدخول في الحرب الباردة وما نتج عنها من تغيرات جذرية في العالم، إلى سقوط حلف وارسو ودخول العالم في حقبة جديدة؛ حيثُ تزامنت هذه الأحداث السياسية مع التغيرات في البُنية الثقافية في العالمين الشرقي والغربي وتزامن التغيير الثقافي مع صعود اقتصاديات حديثة في أوروبا وآسيا.
فنجد أن الصين انتهجت نهجًا رأسماليًا في بناء نموذجها الاقتصادي والصناعي وانفتاحها على العالم الغربي اقتصاديًا بالرغم من فلسفة الحكم الشيوعي في داخلها، كما نجد ولادة الليبرالية الجديدة في العالم الغربي والتي تجاوزت بمفاهيمها دور الثقافة الجمعية التي شكلت الفرد عبر مراحل تاريخية مختلفة والبناء الأسري إلى حالة جديدة من الحريات الفردية والسياسية، والتي تتمحور حول الفرد بشكل مطلق مما جعل المناخ العام في العالم الغربي يتجه نحو انقسام مفاهيمي؛ نتج عنهُ خلق اليمين الجديد في اتجاه قوى اليسار الرأسمالي.
ويبدو أن عالمنا العربي كان معزولاً عن الدخول في مخاض هذه الأحداث والمماحكات التي سبقت عالمنا بمراحل، مما جعل العقل النخبوي في منطقتنا يمر باهتزازات مختلفة في مراحل ما بعد التغيرات السياسية التي حدثت عام 2011 فيما يُعرف بالربيع العربي، حيثُ دخل في حالة صراع مع مخزونهِ الفكري والثقافي ومع الواقع الذي لم يعرف فك شفراتهِ والدخول في أعماقهِ لخلق الحلول للأزمات الراهنة، وبذلك دخل في عزلة قد ساهم تراكم الأزمات والسياسات الخاطئة عبر عقود في صناعتها، وهنا أخص بالتحديد المجتمعات التي حُكمت من خلال النُظم العسكرية أو شبه العسكرية تحت عباءة النظام الجمهوري، عبر مراحل مختلفة من عمر التاريخ السياسي الحديث في العالم العربي، بعكس المجتمعات العربية الأخرى التي حُكمت من خلال أنظمة حكم ملكية وأميرية استطاعت أن تحظى بالتنمية والنمو والاستقرار في محيط واقع غير مستقر، كما حققت قفزات تنموية مهمة على صعيد الاقتصاد والتعليم والتنمية السكانية، وارتفاع دخل الفرد مع تطوير القدرات البشرية واستقرار ولاء المجتمع لحكامهِ، مما ساهم في خلق نموذج اجتماعي متقدم حظى بِنُظم تعليمية متقدمة، مما ساهم في بناء مجتمعات حداثية مستقرة إلى حدٍ ما، بعيدة إلى حد كبير عن حالة النزاع التي توغلت في داخل المجتمعات العربية الأخرى، والتي كانت في مرحلة ما قبل الانقلابات العسكرية نموذجًا يُحتذى بهِ في الاستنارة الفكرية والثقافية في زمن ما بعد الاستقلال وبناء الدولة الوطنية.
وعند دراسة الحالة الليبية فسنجد أن المُشكل الليبي الداخلي يتعدى بمراحل ومسافات المفهوم السياسي لصراع إلى حالة اجتماعية تفتقد للعوامل الجامعة للأمة والشعب، والتي من خلالها تنمو وتمتد الدولة ويزداد نفوذها وسطوتها، ولعل التاريخ يضع ثقل المسؤولية على كاهل النخبة الليبية اليوم في صناعة وحدة الوطن وفض حالة الاشتباك القائم اليوم وصناعة السلام والمصالحة والبناء.
ومن أهم العوامل التي تحافظ على وحدة كيان المجتمع متماسكًا وصلبًا هو عامل الهوية الوطنية الجامعة، ويبدو أن الهوية الليبية كانت مسألة للنقاش منذُ زمن طويل، فكانت إحدى المسائل المهمة التي حاول السيد الأستاذ عبد الحميد البكوش في زمن رئاستهِ للحكومة الليبية في العهد الملكي طرح هذه القضية والعمل عليها بشكل مبكر، ولكن ربما الظروف السياسية في تلك المرحلة لم تجعل من صانع القرار الليبي أخذ هذهِ المسألة بعين الاعتبار وبجدية أكبر، فالتغيرات السياسية التي حدثت في الداخل الليبي منذُ انقلاب 1969 وثم الدخول في مراحل أخرى من التغيير في البنية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في مراحل مختلفة في زمن حقبة حكم العقيد القذافي بدأت منذُ خطاب زوارة 1973 وظهور ما يسمى بالثورة الثقافية، جعلت من الداخل الليبي مُكتظًا بأسباب النزاع والاختلاف وقد أنتجت سياسة الحكم غير الرشيد أسباب سيولة سلطة الدولة لصالح مراكز نفوذ معينة، كما هو الحال في معظم الدول التي عانت من أنظمة حكم شمولية، مما ساهم في إضعاف حالة الانتماء الداخلي للوطن والدولة لصالح الانتماء للفرد ومراكز المصالح.
كما أن ثقافة النزاع المسلح القائمة اليوم هي منتوج لثقافة حافظ النظام السابق على تغذيتها بما يخدم مصالح حكمهِ ولن تنتهي سوى بإحلال محلها ثقافة الحوار وتلاقح المفاهيم المتباينة واحترام الاختلاف في النهج السياسي، وهنا يأتي دور النخبة الليبية في توطين المناخ الديمقراطي أولاً والحفاظ على نهج التداول السلمي لسلطة والفصل بين السلطات وإبعاد نفوذ البندقية والفتوى الدينية عن العملية السياسة، وعدم العودة إلى مفهوم حكم الفرد بأي شكل من الأشكال، ثم خلق وتأسيس النظام السياسي الحديث للوطن الليبي بما يضمن تطوير المجتمع وعزلهِ عن ثقافة المغالبة والاستقواء والغنيمة، لصالح نفوذ الدولة وتمكين أركانها بما يفرض الاستقرار والتنمية والنمو والأمن, وهذا لا يتأتى سوى عبر مشروع وطني حقيقي تصيغهُ النخبة وتديرهُ الدولة وتدعمهُ الجهات الدولية النافذة، فالمواطنة الحقيقة بمفهومها الحديث تفرض على الدولة منح مواطنيها الحقوق والحريات وخلق المساحات المختلفة لتطوير وازدهار قدراتها البشرية، كما تفرض على المواطن إخلاص انتمائه وولائهِ لدولة وليس للأفراد وجماعات المصالح والانتماءات القبلية والمناطقية والمذهبية والتي تُضعف كيان الدولة وتُنهي مركز قوتها وبأنها المُحتكر الوحيد للنفوذ والسلطة والقوى.
فالواقع الليبي اليوم يحتاج إلى خلق تغيير واسع وشامل في المفاهيم والمدارك، ولن يأتي هذا سوى من خلال انتهاج فلسفة النظام الديمقراطي سياسيًا واجتماعيًا، فالحرية السياسية والاقتصادية دائمًا ما تكون الطريق الأكثر يُسر وسهولة في إصلاح المجتمعات وتقويتها وتصحيح مداركها ومساراتها، ولا حرية سياسية بدون الحرية الاجتماعية التي تكون هي الضامن الوحيد في عدم استسلام المجتمع لنمط النُظم الاستبدادية من جديد.
كما يجب أن نستوعب أننا في وطن تتداخل في مساحاتهِ الواسعة رياح جيوسياسية دولية مختلفة، بل إن نشوء الحديث للدولة الليبية كان بمساهمة فعالة ومباشرة من قبل مراكز النفوذ الدولي ، وبالتالي إن وجود مصالح دولية مختلفة في ليبيا أمر إيجابي إذا ما التقت المصالح الدولية بنخبة سياسية وطنية ناضجة ينعكس ذلك إيجابيًا لمصلحة الداخل الليبي، بما يُفيد تطوير قدرات مؤسسات الدولة وقدرات الموارد البشرية وتطوير بُنية الإنتاج في قطاعي النفط والغاز، وخلق اقتصاد بديل عن الاقتصاد الريعي عبر الدخول المُنظم والمدروس في حلقات الاستثمار الدولي والمحلي؛ مما يُزيح عن كاهل الدولة الكثير من أعباء الإنفاق ويُحجم الإهدار والفساد في المال العام ويُحيل الفرد من فرد مستهلك إلى فرد مُنتج حسب القدرات والإمكانات المُتاحة، وهذا لن يتأتى سوى من خلق الشراكات مع القطاع الخاص وتطويره والرفع من كفاءة العنصر المحلي في مختلف المجالات والاهتمام برفع مستوى المعيشة للفرد وتطوير البنية العمرانية والمكانية بما يسمح من خلق نموذج اجتماعي جديد ينتمي للنظام والقانون والمعرفة ولا ينتمي للفوضى وثقافة النزاع والمناطقية والقبلية.
فليبيا اليوم في تحدٍ صريح وواضح في وجود وبقاء كيانها وشعبها فالاستمرار في مرحلة الاستنزاف الداخلي وترهل الدولة والمجتمع في محيط يعج بالكثافة السكانية والعوز المادي، يعني أننا أمام خطر تغيير ديمغرافي وإعادة تشكيل ورسم الجغرافية الليبية بشكل مختلف عن ليبيا التي نعرفها اليوم، ومن هذه المنطلقات تأتي المسؤولية على كاهل النخبة السياسية والثقافية والاقتصادية والعلمية في خلق نمط سلوكي ومعرفي جديد يخلق الاستقرار ويعاكس ما هو موجود عليه واقع الحال اليوم.

ومن الواضح للمتتبع للمشهد الليبي وحالة النزاع القائم بين في الوطن الليبي؛ سواءً بصيغتهِ الباردة أثناء حكم العقيد القذافي أو بصيغتهِ الساخنة في أحداث ما بعد ثورة فبراير 2011؛ سنجد أن سوء السياسات المُتبعة سواء عن قصد أو عن غير ذلك منذُ 1969؛ وحتى يومنا هذا كان المتضرر الأول منها هو الكيان الاجتماعي الليبي، الذي تضرر منذُ أن خلق النظام السابق تفاوتًا طبقيًا عبر تمييز طبقات اجتماعية موالية لهُ على حساب طبقات اجتماعية طبيعية أفرزتها قدراتها في مجالات مختلفة وتطورها عبر حركة الزمن؛ فأصبحت هناك كيانات اجتماعية نافذة وأخرى محكومة، فكان بناء نظام الحكم للعقيد القذافي يعتمد على ارتكزات القبيلة والعشيرة وليس على قدرات وسطوة المدينة، وهذا سبَّبَ خللاً مباشرًا في تطوير الكيان الحضري داخل المدن واتساع نموذجها، بل استطاع النظام الحاكم في ذلك الوقت أن يحاصر المدن بثقافة القبيلة ويجعل تركيبة الدولة مبنية على التوازنات القبلية وليست مبنية على كفاءة وقدرات مجتمع المدينة، ويبدو أن مرحلة التغيير السياسي في ليبيا عام 2011، لم تعقبها مرحلة في تغيير المدارك الثقافية، ولا في تغيير بُنية الدولة مما أتاح الطريق بشكل واسع أن يتحول الداخل الليبي لمجتمع مُتجزئ مُنقسم إلى كيانات مناطقية وقبلية تعتمد عبر تكتلاتها؛ لفرض هيمنة مطلقة على حركة وتطور مجتمع المدينة الحر، وانعكس الصراع السياسي والعسكري القائم اليوم على هذا المناخ الاجتماعي المتأزم؛ مما زاد الأمر تعقيدًا بحيث أصبحت هناك كيانات اجتماعية منتصرة تمتلك القوى وأخرى مهزومة، مما ضرب وحدة النسيج الاجتماعي الليبي فهكذا مفاهيم لا مكان لها في الوطن الواحد.

ومن هنا يأتي حجم المسؤولية القائمة اليوم على النخبة الليبية في عدم الانجرار خلف تكتلات النزاع، والمُضي نحو المبادرة في مرحلة البناء الطويل، والتي يجب أن يكون عنوانها العريض الإصلاح على مستوى الفرد والمجتمع ومؤسسات الدولة، وخلق ثقافة عامة جديدة ومدارك فكرية مُحفزة للعقل الجمعي نحو الاستقرار والسلام والحوار وتقبل الآخر والعمل والإنتاج، وأن المصالحة الاجتماعية الحقيقية هي خطوة أولى نحو خلق بناء اجتماعي حديث يستطيع أن يُنتج دولة حديثة تستفيد من تراكم الفشل السابق ومن مرارة الحرب الأهلية بصورها المختلفة إلى دولة العدالة والقانون والحريات والديمقراطية ذات التعددية السياسية، فالأمن والسلم الاجتماعي لا يصنعهُ حكم البندقية بل تصنعهُ العقول الوطنية الحرة والمناخ السياسي الديمقراطي الحر المستنير الذي يفرض مناخ الاستقرار والسلام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى